العلامة آية الله السيد علي القاضي الطباطبائي (1285- 1366 ه / 1868 – 1946 م)، هو عارف و فيلسوف و مفسّر ومرجع شيعي أصله من تبريز، عاش أغلب حياته في النجف الأشرف، وبقي فيها حتى أواخر عمره لتصبح موطنه، نشأ تحت رعاية والده المرحوم السيد حسين القاضي، وأسرته من الأُسر العلمية المعروفة بالفضل والأخلاق، ينتهي نسبها إلى الإمام الحسن المجتبى(ع).
دراسته
ترعرع في أحضان والده السيد حسين القاضي الذي أفاض عليه عملياً دروس التربية والتهذيب منذ صغره، ولمّا قدِم إلى النجف الأشرف درس الأخلاق والعرفان والسير والسلوك إلى الله على يد آية الله الشيخ محمد البهاري، وآية الله السيد أحمد الكربلائي، وهما من أبرز تلامذة الملا حسينقلى الهمداني.
كان السيد القاضي بارعاً في العلوم الدينية كالفقه والأصول والتفسير، كما كان متبحراً في العلوم العربية أيضاً كالنحو والصرف واللغة والبلاغة والشعر، فكان يحفظ أربعين ألف مفردة لغوية، وكان فصيحاً بحيث لا يتصور السامع أنه شخص أعجمي عندما يقرأ الشعر العربي .
في خاتمة مطاف دراسته الحوزوية والتتلمذ على يد أبرز العلماء أثمرت جهوده في طريقه لكسب العلم والمعرفة والكمال؛ لينال في السابعة والعشرين من عمره درجة الإجتهاد.
تلامذته
كان السيد القاضي متبحراً أيضاً في علوم القرآن وتفسيره، يرجع إليه الفضل في تفسير القرآن بالقرآن والتي تعتبر بحق من أنضج المناهج التفسيرية للقرآن، وقد أقرّ بذلك العلامة الطباطبائي أبرز تلاميذه، والذي أسس تفسيره الميزان على ضوء هذه الطريقة – وصرح بذلك بقوله: ” إنّ الذي علمنا منهج تفسير الآية بالآية هو أستاذنا المرحوم القاضي وقد تابعنا نهجه في تفسير القرآن، كما كان يمتلك ذهناً وقاداً وأفقاً واسعاً في فهم الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت(ع) وقد تعلمنا منه أيضاً طريقة فهم الأحاديث والتي تسمى بفقه الحديث”. لقد تأثر العلامة الطباطبائي كثيراً بأستاذه ، بحيث استطاع أنّ يكتسب الفضائل والكمالات والمقامات، ويدخل في الصالحين والأحرار، ويتنور بنور معرفة التوحيد، ويرد إلى الحرم الآمن، ويطوي بساط عالم الكثرة والاعتبار، وهو أرجع كل ما هو عليه للسيد القاضي إذ قال :” إنّ كل ما عندنا هو من المرحوم القاضي”.
بالإضافة للعلامة الطبطبائي تخرج على يديه ثلة من العلماء والعرفاء الذين تركوا أثرهم الواضح بعد ذلك في الحوزات العلمية والعالم الشيعي، ومن أبرز هؤلاء التلاميذ السيد أبو القاسم الخوئي الذي طلب منه برنامجاً للعمل العبادي فأعطاه ذكراً يواظب عليه أربعون يوماً، وبعد ختم الأربعين حصلت له مكاشفة لحياته المستقبلية إلى لحظات الموت، فرأى نفسه على المنبر وهو يدرس الفقه والأصول، ويُستفتى في المسائل الشرعية ورأى نفسه إماماً لصلاة الجماعة، وهكذا اتطلع على كل مراحل حياته إلى أخرها، وكذلك من تلاميذه الشيخ محمد تقي بهجت، والسيد عبد الحسين دستغيب، والشيخ محمد رضا المظفر، والشيخ علي محمد البروجردي، والشيخ محمد تقي الآملي والسيد شهاب الدين مرعشي النجفي والسيد هاشم الحداد الذي قال عن السيد القاضي أنّه:” لم يأت منذ صدر الإسلام حتّى الآن في مثل شمول وجامعيّة المرحوم القاضيّ، لقد كان المرحوم السيّد (القاضيّ) عالماً لا مثيل له في الفقاهة، ولا مثيل له في فهم الرواية والحديث، ولا مثيل له في التفسير والعلوم القرآنيّة، وفي الأدب العربيّ واللغة والفصاحة، وحتّى في التجويد والقراءات القرآنيّة.” وكذلك تحدث عنه تلميذه العلامة الطهراني قائلاً:” كان المرحوم القاضي يتمتّع بجنبتي العلم والعرفان، ففي العلوم الظاهريّة كان فقيهاً عظيماً وعالماً جليلاً، وفي العلوم الباطنيّة كان عارفاً واصلاً وإنساناً كاملاً … إنّه فَريد العصر وحسنة الدهر وسلمان الزمان وتَرجُمان القرآن.” كذلك قال عنه العارف السيد هاشم الرضوي الكشميري الذي كان من تلاميذه:” عندما كنا نذهب إلى السيد القاضي كان يهب لنا سروراً وارتياحاً وانبساطاً روحياً ننسى معه جميع مصاعب الحياة ومشكلاتها” .
عبادته
كان السيد يتخفى بعبادته عن الأعيُن إلا في أداء الفرائض التي كان يأتي بها جماعة مع صفوة تلاميذه البالغين من السبعة إلى العشرة بمنزله في إحدى غرف المدارس الدينية، كما كانت له غرفة في مسجد الكوفة يتعبد فيها بعد الساعة الثانية عشر ليلاً حينما تهدأ العيون ويغط الطلبة الساكنون في النوم فيبدأ السيد القاضي مناجاته ومزاولة أوراده وأذكاره بصوته الجميل الذي يأخذ بقلوب من يصغي اليه، وكان مواظباً على زيارة جده الإمام علي(ع) بعد الساعة الثانية ظهراً حيث يهرع الناس إلى بيوتهم بسبب الحر الشديد ويبقى الحرم خالياً إلا عدد قليل من الزوار.
سجاياه الأخلاقية
كان السيد القاضي صاحب خلقٍ رفيع قد هذب نفسه تهذيباً كاملاً من رذائل الأخلاق كالتكبر والغرور وحب الرئاسة والمدح وحب الدنيا…، لقد كان إنساناً قد تحرر من شهواته وصار ملكوتياً تنكشف له حقائق الوقائع والأحداث ويرى حقيقة الأشخاص.
كثيراً ما نُقل عن أخلاقه عن طريق تلامذته ومعاصريه من أنّ السيد القاضي كان صاحب خُلق رفيع قد هذّب نفسه تهذيباً كاملاً من رذائل الأخلاق، كالغرور والتكبر وحب الرئاسة والمدح وحب الدنيا، وغيرها من الرذائل. وتحلى بالصفات المحمودة، كالتواضع والتذلل للمؤمنين وحب الفقراء والضعفاء والمساكين ومساعدتهم والكرم والشجاعة والرضا والقناعة، ونحوها.
يقول في هذا الصدد آية الله السيد محمد الحسيني الهمداني :”كان السيد القاضي بحراً موّاجاً في العلم والأخلاق والعرفان، وكان أكثر أوقاته صامتاً ولا يتكلم إلاّ قليلاً جداً، وكان من عادته أن يبدأ الآخرين بالسلام، وكان يكره أن يلفت انتباه الناس إلى وجوده، ولذا كان يبتعد عن أماكن ازدحام الناس والتجمعات العامة، وربما تمضي فترة طويلة لا يراه أحد”.
وصاياه الأخلاقية والعرفانية
كان السيد القاضي يحثّ تلامذته على قراءة القرآن بتدبر، والمحافظة على الصلوات في أوائل أوقاتها، وكان يؤكد كثيراً على الإهتمام بصلاة الليل، وكان يوصي بالثبات والإستمرار في طريق تزكية النفس، كما كان يشدد على أهمية الحفاظ على الصلاة:” “أهم ما أوصيكم به فهي الصلاة، إنّ حافظت عليها حفظت كل شي، ما أوصيكم به حقاً هو طاعة الوالدين وحسن الخلق وملازمة الصدق، وأن يوافق ظاهركم باطنكم، دعوا الحيل والخداع، وعليكم البدء بالسلام والإحسان إلى كل برٍ وفاجر إلا فيما نهى الله عنه، فأحفظوا ما ذكرته لكم وما لم أذكره، الله الله في قلوب الناس فلا تمسوها، أكسب قلوب الناس ما أستطعت فكسرها غير حميد “. وقد أوصى كذلك تلامذته بزيارة أهل القبور، وأن يجلسوا بعد قراءة الفاتحة في زاويةٍ وتمضية ساعةً من الوقت بالصمت والخلوة والتفكّر في المآل وفي عاقبة الأمر وفي الموت لما “لهذا الأسلوب من تأثير جيّد في قطع التعلّقات، والتفات النفس إلى مبدأ الوجود، ومنعها من الالتفات إلى الكثرات”.
وفاته
بعد عمرٍ استغرق ثلاث وثمانين عاماً قضى جلّه في تربية السالكين إلى الله عز وجل وفي تدريس المعارف الإلهية انتقل إلى جوار ربّه ليلة الأربعاء السادس من شهر ربيع الأول سنة 1366 هـ، ودفن في مقبرة وادي السلام مجاوراً لقبر والده قرب مقام الإمام المهدي (عج). وقد رثاه الكثير من العلماء وأدباء النجف الأشرف وأقيم له مجلس الفاتحة لمدة ثلاثة أيام متوالية في المدينة وحضره كبار العلماء وعلى رأسهم السيد الخوئي والسيد مهدي الشيرازي والشيخ حسين القمي.
الوفاق