الألقاب الأدبيَّة: إشكاليَّة ثقافيَّة

يبدو أن هناك جملة من الأسباب ساهمت في ظهور هذا النسق الثقافي وتفشيه في المجتمع الثقافي بكلي طرفيه: منتجين ومتلقين، ويبدو أن تطور عوامل التواصل المجتمعية، والإعلامية منها على سبيل التخصيص، كانت العامل الأكثر تأثيرا في ترسيخ هذا النسق، ولا نرى أن للنقد دورا كبيرا في هذا الترسيخ...

2024-11-18

 

على ضوء الطاولة النقاشية التي عقدت ضمن فعاليات مهرجان الجواهري بدورته الخامسة عشرة. والتي جرى فيها مناقشة ظاهرة الألقاب التي تطلق على الأدباء والشعراء منهم على الأخص، وقد قدم فيها جملة من الحاضرين من نقاد وأكاديميين رؤاهم، التي ألمت ببعض جوانب الموضوع، ولكنها لم تقدم إحاطة تامة أو معالجة وافية لهذه الإشكالية، وهي واحدة من الإشكاليات الثقافية المهمة، التي تحتاج إلى مزيد من البحث

 

ولعل السبب في هذا الاقتصاد في الإحاطة بالموضوع وليس القصور، هو الشعور الذاتي للمتحدثين ربما باحترام عامل الوقت الذي يحد من إمكانية تقديمهم رؤاهم بشكل أكثر شمولية وعمقا رغبة في اشراك الجميع في الحديث، إلى جانب عدم حضور أو تقديم تحديد تعريفي وحصري لإشكالية الألقاب الأدبية، وهي مسؤولية تقع على عاتق اللجنة التي حددت هذا المحور النقاشي أولا، ومدير الطاولة النقاشية ثانيا، رغم مقدرته الواضحة وبراعته في إدارة دفة النقاش وإثراء الموضوع برؤاه الواعية، ونحن هنا سنحاول أن نوسع أو نتوسع في رؤيتنا لهذه الإشكالية التي قدمناها بشكل تلميحي أكثر مما هو توضيحي في مداخلتنا.

 

بدءًا لا بدَّ من أن نضع حدا تعريفيا لهذه الإشكالية، والتي نحسب أنها هي الهدف الأساس الذي كانت تسعى الطاولة النقاشية للإحاطة بآثاره ودلالاته ومسبباته وغاياته. وهو الجانب المهم والإشكالي في موضوع الألقاب الأدبية، والذي ينحصر أو يتحدد في تلك الألقاب التي تهدف إلى إضفاء تمييز رتبي خاص يمنح الشاعر أو الأديب مرتبةَ تفَوِّقٍ على الشعراء أو الأدباء الآخرين. ومن ثم ومن خلال هذا التحديد نُخرج كل ما ينتمي إلى الألقاب الأخرى، التي تتعلق بالنسب أو الحرفة أو الخلقة أو المكانة الاجتماعية. ومنها على سبيل المثال لقب الملك الضليل أو ذي القروح والذي ليس له علاقة بالتميز الإبداعي. بل هو لقب سيري، كما أن لقب الصعاليك لقب اجتماعي، ولقب الحطيئة أو الفرزدق أو الأخطل أو الجاحظ أو وضاح اليمن هي ألقاب خلقية، ولقب الشاعر الوزير أو الشريف هي ألقاب اجتماعية. وكل هذه الألقاب لا تدخل في إطار إشكالية اللقب الأدبي الذي يضفي تميزا للأديب على- أو عن- أقرانه.

 

ونحن نرى أن الأدب العربي القديم باستثناءات قليلة لا يبدو واضحا تغلغل هذا النسق الثقافي في تركيبته الاجتماعية، أو في دائرة مجتمعاته الأدبية على وجه التحديد. والاستثناءات تلك لعلها في الغالب أكثر ميلا نحو التوصيف الجماعي وليس الفردي، وهي غالبا ليست ملازمة للشاعر في حياته بل من اجتراحات النقاد المتأخرين عنه زمنيا، كما في تمييز أصحاب المعلقات أو الشعراء الفحول، وهي ألقاب اشترك فيها مجموعة من الشعراء، ولم تختص بشاعر واحد باستثناء النابغة أو علقمة الفحل، وفي لقبه هذا قولين أحدهما يدخله في التميز الشعري والآخر في تفريق خلقي. كما أن لقلب المتنبي متعدد الدلالات لعل من بينها ما يدخله في دائرة التميز الشعري وفقا لمقولة أنه يعني الربوة العالية أو المرتفع من الأرض.

 

ولعل أكثر الفترات التي ترسخ فيها هذا النسق الثقافي، هي الفترة المتأخرة، بدءا من القرن التاسع عشر وما بعده، فقد شهدت هذه الفترة ظهور الألقاب بشكل ملفت.

 

ووفقا لما نراه أن ظاهرة تفشي الألقاب الأدبية تنحصر في جملة أسباب قد تتداخل بعضها ببعض لعل من أهمها (التبجيل والإشهار والتسويق والنرجسية والتكميلية والأسبقية):

 

1 – التبجيل: ومثل هذا اللقب يطلقه بعض المريدين على شاعر أو أديب يرون فيه تميزا عن أقرانه، فيعملون على تسويق هذا اللقب، حتى يصبح لقبا متداولا ومسلما به يلتصق بصاحبه التصاق الاسم، وربما يغلب حتى على الاسم. وهنا يدخل في ذلك الجانب الإشهاري والتسويقي وقد يتجاوز ليلامس نرجسية الذات الشاعرة. وهو ما متحقق في لقب شاعر العرب الأكبر أو أمير الشعراء، أو عميد الأدب العربي، بغض النظر عن رؤيتنا الخاصة لحقيقة التوصيف من عدمها.

 

2 – الإشهار والتسويق: ومثل هذه الألقاب يصنعها الإعلام ترويجا وتسويقا وإشهارا لشاعر أو أديب بغية خلق تميز مناطقي أو أيديولوجي أحيانا وتجاري أحيانا أخرى، ومن هذا شاعر النيل أو شاعر النساء أو شاعر “الحزب الفلاني”، أو شاعر المقاومة أو شاعر “القادسية وأم المعارك”.

 

3 – النرجسية والتكميلية: والألقاب التي تندرج تحت هذا النوع هي تلك الألقاب التي يطلقها ويروج لها الشاعر أو الأديب ذاته. وهذه لا تعبر إلا عن دوافع نرجسية تتأسس على اعتقاد بتميز ذاتي عن الآخرين، وتدخل تحت ظل هذا الادعاء بالأسبقية سواء كانت حقيقية أم متنازع عليها، وسواء أدعيت من قبل ذلك الشاعر أو الأديب أم أدعي له بها، ومن ذلك لقلب رائد أو رائدة الشعر الحر، أو تلك الألقاب التي يصف بها بعض الشعراء أنفسهم كجانب وجاهي أو تكميلي ويحاول تسويقها على أنها صفة تمييزية له عن سواه، ومثل هذا ما درج عليه بعض الشعراء والأدباء المعاصرين.

 

ومن المهم أن نشير إلى أن ثمة ألقابا لا تحمل صفة التميز الأدبي وإنما هي نتاج تأثر بشخصية ما أو سمة أسلوبية في شعر الشاعر، كما في ألقاب (أدونيس أو الأخطل الصغير أو بدوي الجبل)، كما أن هناك ألقابا تحمل سمة الخطاب التبجيلي ولكنها ليست من الألقاب الملازمة التي اشرنا لها فيما سبق كما في خطاب ت، أس، إليوت لعزرا باوند في إهدائه لقصيدته (الأرض اليباب) بقوله: “إلى الصانع الأمهر”. أو في خطاباتنا التي تأتي كخطاب تبجيل أو مجاملة وإن كانت تعبر عن تميز أدبي ولكنها لا تمتلك سمة الملازمة كقولنا: الشاعر الكبير أو الناقد الكبير.

 

ومن خلال ما تقدم يبدو أن هناك جملة من الأسباب ساهمت في ظهور هذا النسق الثقافي وتفشيه في المجتمع الثقافي بكلي طرفيه: منتجين ومتلقين، ويبدو أن تطور عوامل التواصل المجتمعية، والإعلامية منها على سبيل التخصيص، كانت العامل الأكثر تأثيرا في ترسيخ هذا النسق، ولا نرى أن للنقد دورا كبيرا في هذا الترسيخ.

 

أحمد الشطري

 

المصدر: شبكة النبأ