"الميركافا" وصورة الكيان الصهيوني عن ذاته

“عربة الرّب” لا تصنع محاربين أقوياء!

تمكّن المقاومون في المعارك الدائرة عند الحدود الجنوبية للبنان من تدمير كثير من الدبابات حتى لحظة كتابة هذه السطور.

2024-11-19

على رغم الخسائر الهائلة في غزة ولبنان، فإن الكيان الصهيوني يصرّ على استخدام دبابات “الميركافا”. لماذا؟ وما علاقة هذه الدبابة بنظرة الكيان الصهيوني إلى نفسه؟

في كل عدوان يشنّه الكيان الصهيوني على شعوب منطقتنا، نلاحظ إصرارها العجيب على إدخال دبّابات “الميركافا” في عملياتها العسكرية.

 

وعلى رغم “مجزرة الميركافا” عام 2006 في جنوبي لبنان (والتي كانت في الواقع حفلة شواء ضخمة للدبابات بواسطة صواريخ كورنيت)، مروراً بتحويل غزة إلى أكبر مصنع لإعادة تدوير الحديد في العالم، فإن الكيان الصهيوني لم يتوقف عن استخدام هذه الدبابة. فلماذا هذا الإصرار؟

 

“الميركافا”.. “عربة الرّب” لا تصنع محارباً قوياً!

 

تتجاوز دبابة “الميركافا” كونها مجرد آلة حربية في الكيان الصهيوني، لتصبح رمزاً عسكرياً وثقافياً ذا أبعاد أسطورية عميقة لشعب يزعم أنه “شعب الله المختار”.

 

ويقول الباحث الصهيوني، ياغيل ليفي، في كتابه “النزعة العسكرية المادية الصهيونية” (2007)، إنّ اختيار اسم “ميركافا” للدبّابة الرئيسة في جيش الاحتلال لم يكن مجرد تسمية عسكرية، بل خطوة واعية تهدف إلى الربط بعمق بين الهوية العسكرية المعاصرة و”التراث الديني القديم”. أما الأهم فكان تحويل الصورة النمطية لليهودي من شخص سلبي ومنفي إلى محارب قوي.

 

وتعني كلمة “ميركافا” بالعبرية “مركبة الرّب”، أو “عربة الرّب”، وهي مستمدة من رؤية النبي حزقيال في أسفار “العهد القديم”. وتصف الرؤية مركبة سماوية مُعقدّة، شكّلت أساساً لتقاليد روحية عميقة في اليهودية، ترتكز على فكرة الصعود الروحي والتأمل في العوالم السماوية، والتواصل مع الحقائق الإلهية.

 

على رغم أننا لا نعلم كيف يمكن أن تتوافق فكرة السّمو الروحي الذي تؤمّنه “الميركافا” مع مشاهد الأشلاء وأعمال الإبادة التي يقوم بها كيان الاحتلال في لبنان وغزّة!

 

وُلدت فكرة “الميركافا” من رحم حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، حين واجه الكيان الصهيوني خسائر فادحة في دبّاباتها في أثناء اشتباكاتها مع الجيش المصري، الذي استخدم مقذوفات مضادة للدبابات روسية الصنع، من طراز “ساجر”.

 

وبدلاً من التفكير في أن “الدبّابات ربما ليست الحل لكل شيء”، قرر جيش الاحتلال تطوير دبابة صهيونية خالصة، تكون أولويتها القصوى حماية أرواح طاقمها. من أجل هذه الغاية شكّل الكيان الصهيوني بعد الحرب لجنة برئاسة الجنرال، “إسرائيل تال”، لتصميم آلية تتكيّف مع جغرافيا فلسطين المحتلة والدول المجاورة، وتسمح للجنود بالتحرك من دون خوف من الأسلحة المضادة للدبابات.

 

ويقول الكيان الصهيوني إنّ دبابتها “ميركافا” واحدة من أقوى الدبابات في العالم، إذ تمّ تصميمها لتوفِّر حماية قصوى لطاقمها، بالإضافة إلى قدرتها القتالية المُتقدّمة. وتطوّرت هذه الدبابة على مدار عدّة أجيال من “ميركافا 1” حتى “ميركافا 4″، وأصبحت جزءاً أساسياً في سلاح الجيش الصهيوني منذ عام 2004، ويبلغ ثمنها نحو 6 ملايين دولار.

 

وتتميّز “الميركافا” الأحدث، واسمها باراك (أي البرق)، بنظام حماية نشط قادر على اعتراض الصواريخ المُضادة للدبّابات، وتقنيات مُتقدّمة في الذكاء الاصطناعي لإدارة المعركة. كما تحتوي على مدفع رئيس عيار 120 ملم، إلى جانب أسلحة أخرى مثل المدافع الرشاشة، ومحرك خلفي يوفر حماية إضافية للطاقم.

 

ومن مميزاتها الأخرى نظام للتحكّم في الحرائق، ونظام تعليق مائي هوائي متطور يسمح بالتنقل في تضاريس متنوعة. كما يمكن للدبابة نقل قوات إضافية في داخلها، ولها تصميم منخفض يجعل اكتشافها واستهدافها أكثر صعوبة في المعارك البرية.

 

ولم ينس المصممون إضافة نظام تكييف داخلي للدبّابة كي يشعر الجنود بالانتعاش والبرودة في أثناء ارتكابهم لجرائمهم.

 

“الميركافا” أو صورة الكيان الصهيوني عن ذاته

 

واجهت “الميركافا” منذ نشأتها تحديّات جمّة في ساحات القتال المتعددة. فخلال اجتياح لبنان عام 1982، برزت صعوبات في مواجهة تكتيكات المقاومة اللبنانية، وهو ما دفع المهندسين إلى إعادة النظر في بعض جوانب التصميم.

 

وفي سياق مغاير تماماً، استخدم جيش الاحتلال “الميركافا 3” في مناطق سكنية في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)، الأمر الذي كشف محدودية مرونتها وقدرتها على التكيّف مع بيئات القتال الحضرية.

 

وشكّل عام 2002 نقطة تحوّل مأسَوية في تاريخ “الميركافا”. إذ تمّ تدمير عدّة دبّابات في غزة باستخدام أسلحة بدائية نسبياً. وهذه الحوادث دفعت الكيان الصهيوني إلى تطوير نظام الحماية “تروفي”، وهو نظام دفاعي متطور يهدف إلى اعتراض الصواريخ المضادة للدروع قبل وصولها إلى الدبّابة.

 

لكن التحدي الأكبر جاء في حرب 2006 مع لبنان، بحيث عانت “الميركافا” خسائر كبيرة لم تكن متوقعة، وما زال وادي الحجير في جنوبي لبنان شاهداً على مجزرة الدبّابات الشهيرة.

 

هذه الخسائر المتتالية كشفت نقاط ضعف في تدريع الدبّابة، وخصوصاً في المنطقة أسفل البرج. واستغلت المقاومة الفلسطينية هذه الثغر، مُطوّرة أسلحة متقدمة مثل قذائف “ياسين – 105″، التي تمكنّت من التغلب على أنظمة الحماية المتطورة لهذه الدبابة، وشكّلت تحدياً جديداً وخطيراً لآلة عسكرية لطالما عُدّت رمزاً للتفوق العسكري الصهيوني.

 

وتمكّن المقاومون في المعارك الدائرة عند الحدود الجنوبية للبنان من تدمير كثير من الدبابات حتى لحظة كتابة هذه السطور. وهذه الخسائر تثير تساؤلات جدية بشأن فعالية الميركافا في الحروب الحديثة، وقدرتها على التكيّف مع أساليب القتال المتطوّرة، لمختلف الجماعات العسكرية.

 

وعلى رغم الخسائر العديدة التي مُنيّت في ساحات القتال، فإن الكيان الصهيوني يستمر في تطوير “الميركافا” وإنتاجها.

 

ولعل هذا الإصرار لا ينبع فقط من اعتبارات عسكرية أو اقتصادية، بل هو مدفوع بعناد استراتيجي وجبن تاريخي عميق.

 

في الحقيقة فإن بناء “الميركافا” ليس إلا انعكاساً لرؤية الكيان الصهيوني لذاته: “دولة” مُحصّنة بجدران عازلة، قويّة في خيالها، ذات جنود يحاربون من خلف دروع حديدية، وتحميهم طائرات حربية فوقهم وعلى جنبيهم.. إلى أن تصيبهم أول رصاصة من مقاوم متربّص عند الحدود!

 

“الميركافا”، إذاً، دليل حيّ على أن هناك دولاً تُفضّل الاستمرار في الحفر عندما تجد نفسها في بئر عميقة، بدلاً من التوقف والتفكير في سلّم للخروج.

 

سلوى دبوق

كاتبة من لبنان

 

 

المصدر: الوفاق/ وكالات