تشكل العلاقات الصينية الهندية أحد أهم المحاور الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين، حيث يمثل البلدان معاً أكثر من ثلث سكان العالم وقوتين اقتصاديتين متناميتين. وعلى مدى العقود الماضية، شهدت هذه العلاقات تقلبات كبيرة بين التعاون والتنافس، متأثرة بعوامل تاريخية وجغرافية واقتصادية معقدة. وفي السنوات الأخيرة، برزت تحديات جديدة في العلاقات الثنائية، لكن صاحبتها أيضاً فرص غير مسبوقة للتعاون المشترك.
تغيير نسبي
التقى شي جين بينغ، رئيس الصين، وناريندرا مودي، رئيس وزراء الهند، مؤخراً في مدينة قازان على هامش قمة بريكس، في أول لقاء يجمع بينهما منذ خمس سنوات. تعهد الزعيمان بتوجيه مسؤوليهما نحو اتخاذ المزيد من الإجراءات لتعزيز العلاقات الثنائية. جاء هذا اللقاء بعد يومين من إعلان نيودلهي التوصل إلى اتفاق مع بكين لتخفيف التوترات والصراعات القائمة في الهيمالايا.
قبل شهر من هذا اللقاء المهم، صرح سوبرامانيام جايشانكار، وزير الخارجية الهندي، رداً على سؤال حول عضوية الهند في كل من التحالف الرباعي بقيادة الولايات المتحدة ومجموعة بريكس المتحالفة مع الصين وروسيا، بأن الهند قادرة على “مضغ العلكة والمشي في نفس الوقت.”
جاء هذا الموقف في أعقاب سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى بين المسؤولين الصينيين والهنود خلال عام 2024، حيث سعت كل من بكين ونيودلهي إلى إرساء أساس لإعادة بناء العلاقات المتضررة بشدة بين البلدين. يرى البعض أن هذه اللقاءات تمثل أول محاولة جادة ثنائية لتثبيت العلاقات منذ الاشتباك الكبير في وادي غالوان في يونيو 2020، الذي أدى إلى تدهور حاد في العلاقات الثنائية.
المنافسة الدولية والتعاون الكتلي
لفهم الوضع الحالي للعلاقات الثنائية، من الضروري إلقاء نظرة على تطورات العامين الماضيين. فمنذ يونيو 2020 وحتى صيف 2024، تميزت العلاقات الصينية الهندية بمزيج من قوتين متناقضتين ظاهرياً – المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية بين الدولتين والتعاون الاستراتيجي داخل الكتل.
في المنافسة بين الدولتين، وبالرغم من استمرار المواجهات العسكرية على طول خط السيطرة المتنازع عليه، إلا أن معظم التوترات ظهرت في مجالات أخرى. فعلى سبيل المثال، رداً على المواجهة الحدودية عام 2020، حظرت الهند 59 تطبيقاً صينياً، من بينها تيك توك، بحجة تهديد الأمن القومي. وفي السنوات الأربع التالية، تم حظر أكثر من 300 تطبيق صيني – وهو إجراء يعكس المخاوف الأمنية ورغبة الهند في تعزيز شركاتها المحلية للمنافسة مع الشركات التكنولوجية الصينية.
من جانبها، صعّدت بكين لهجتها النقدية تجاه حكومة نيودلهي، وفي عام 2023 قام البلدان بطرد متبادل للصحفيين. استفادت نيودلهي من جهود الغرب لتقليل الاعتماد على الصين، حيث نقل المصنعون وشركات التكنولوجيا أجزاءً من سلاسل التوريد الخاصة بهم إلى الهند. من جانب آخر، ترى الصين في القومية الاقتصادية الهندية تهديداً خطيراً لمصالحها.
ومع ذلك، لم تمنع هذه المنافسة الصين والهند من التقارب في إطار الكتل الإقليمية (مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون). كما أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تقارب البلدين مع روسيا، خاصة في مجال الطاقة، حيث تجاوزت الهند الصين في يوليو من هذا العام كأكبر مشترٍ للنفط الروسي.
علاوة على ذلك، يدرك البلدان خطر النظام الدولي الذي يفرضه الغرب – القادر على فرض عقوبات واسعة النطاق على الدول. لذلك، لا ترغب أي من بكين ونيودلهي في مواجهة مباشرة مع واشنطن، لكنهما تسعيان للحفاظ على استقلالهما الاستراتيجي وتعزيزه. وتُعد بريكس – مع توسعها الأخير في شمال إفريقيا والشرق الأوسط – منصة مناسبة لتحقيق هذا الهدف.
كل شيء يعود إلى الاقتصاد
فما الذي تغير في الأشهر الأخيرة ليجعل القوة الثانية، أي محاولات تخفيف التوترات والتحرك نحو علاقات ثنائية إيجابية، تكتسب أهمية أكبر؟ الإجابة تكمن في الوضع الاقتصادي لكلا البلدين.
تسببت البطالة في الهند، خاصة بين الشباب المتعلمين، في أزمة صامتة. فالكثير من الشباب العاطلين عن العمل هم من المتعلمين – وهو معدل تضاعف منذ عام 2000. وقد أدت هذه المشاكل الاقتصادية إلى أداء ضعيف لحزب بهاراتيا جاناتا (BJP) الحاكم في الانتخابات الأخيرة. قد يسعى مودي إلى استخدام التكنولوجيا الصينية والاستثمارات المشتركة بين الشركات الصينية والهندية لتحسين الأداء الاقتصادي للهند.
من جانبها، ركزت بكين من خلال حزم التحفيز الأخيرة على تحقيق هدف النمو البالغ 5%. وبالرغم من أن الاستجابة للمشاعر القومية لا تزال مهمة، إلا أن القلق الأكثر إلحاحاً يتمثل في استعادة ثقة المستثمرين وتعزيز القطاع الخاص. تتطلب هذه الجهود البراغماتية والرغبة في تخفيف التوترات، بما في ذلك العلاقات مع الولايات المتحدة والجيران.
دفع الأداء الاقتصادي غير المرضي في كلا البلدين قادتهما إلى إعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي المحلي على النزاعات الإقليمية. يعتمد استمرار هذا الوضع على عوامل مثل الرئيس الأمريكي القادم، وضع الصادرات الصينية، حربي غزة وأوكرانيا، وثقة القادة في مسارهم الاقتصادي. “رياح التغيير تهب بقوة”، كما يقول بوب ديلان – لكنها قد تهب في اتجاه مختلف إذا اقتضت الظروف ذلك.
مجالات تعاون
في قضايا تغير المناخ والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، يمكن للقوتين التعاون بشكل كبير. كما يمكن اعتبار مجال تنظيم وأمن الذكاء الاصطناعي فرصة للتعاون السهل والمنخفض التكلفة، بالنظر إلى الوثائق والمنشورات المشتركة الصادرة عن نيتي آيوغ في الهند وإدارة الفضاء السيبراني الصينية.
كقوتين عظيمتين ومؤثرتين وذات جذور حضارية، لن تختفي الصين والهند من المشهد العالمي في المستقبل القريب. إن تعزيز الثقة وتسهيل الاتصالات وتحديد مجالات التعاون المشترك أمر بالغ الأهمية؛ ليس فقط لما يقرب من ثلاثة مليارات شخص يعيشون في هذين البلدين، ولكن للعالم بأسره.
إن العلاقات الصينية الهندية في مفترق طرق تاريخي. فرغم التحديات والتوترات القائمة، يبدو أن البلدين يدركان أهمية إيجاد أرضية مشتركة للتعاون والحوار. وتشير التطورات الأخيرة إلى أن المصالح الاقتصادية والتحديات العالمية المشتركة قد تدفع البلدين نحو تعاون أوثق، متجاوزين خلافاتهما التاريخية والجغرافية.
ومع ذلك، فإن نجاح هذا المسار يتطلب جهوداً متواصلة من كلا الجانبين لبناء الثقة وتعزيز التفاهم المتبادل. كما أن تطور العلاقات الصينية الهندية سيكون له تأثير عميق ليس فقط على آسيا، بل على النظام العالمي بأكمله. وفي عالم يشهد تحولات جيوسياسية متسارعة، قد يشكل التعاون البناء بين الصين والهند نموذجاً جديداً للعلاقات الدولية، يقوم على التعايش السلمي والمنفعة المتبادلة، بعيداً عن منطق المواجهة والصراع.