خاص الوفاق:

الحوار وأدبه؛ مع تنوع الإختلاف الفكري والثقافي

ضربت مدرسة اهل البيت عليهم السلام اروع الامثلة في فن الحوار والمحاورة وتقبل الاخر واحترام آرائهم ، ويمثل الحوار في مدرسة الإمام الصادق(ع) مرتكزا للتلاقح الفكري والثقافي، كما ويمثل أيضا المرتكز الأساس في بناء العلاقات الإنسانية..

2023-01-23

أ.د.حسين الزيّادي

هنالك حكمة إلهية في التنوع الاختلاف الثقافي والفكري، فهو مصدر قوة وانبعاث وتجدد، وهذه الخصائص جعلت البشر يختلفون في أمزجتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم وأفكارهم، وهذا واقع كوني وإرادة إلهية يستحيل إلغاؤها، والتعدد ضرورة اجتماعية لامناص منها، لذلك بات الحوار ضرورة حياتية على جميع المستويات فهناك الحوار الاسري والمجتمعي وحوار الحضارات، لكن علينا في هذا المجال ان نميز بين الحوار الهادف الى اماطة اللثام عن الحقيقة والجدل المذموم الذي يتحول إلـى مشـاحنات أنانيـة ومشاغبات ومغالطات ومهاترات ، ونحو ذلك مما يفسد القلوب، ويهيج النفوس ويورث التعصب والبغض والكراهية.

من الشروط التي ينبغي مراعاتها عند الحوار

  • ان الهدف الأسمى من المحاورات والمناظرات والردود ونحوها هو التوصل إلى الحق، وكشف الزيغ والانحراف، وليس الانتصار على شخصية المقابل ، وإن الغرض الرئيس من الحوار هو البحث عن الحق ليتضح، فالحق مطلوب والتعـاون علـى النظر فيه مفيد ومؤثر، بمعنى آخر يجب ان يكون التركيز على الرأي لا على صاحبه حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية، طابعهـا الطعن والتجريح، فالحقّ ضالّة المؤمن ينشده حتى ولو كان على نفسه، فذلك العقل بعينه والتحـرر مـن تبعية الهوى. أما الكبر فهو داء نفسي خطير يتهدّد الإيمان بأنه ردّ الحق وإنكاره.
  • التزام الموضوعية والعدل والإنصاف والبعد عن التعصّب لان بالالتزام بالموضوعية يقود الحوار إلى طريق مستقيم لاعـوج فيـه، ويحول دون الانسياق إلى الهوى، فعلى المتحاورين أن يتجنّبا التعصب، ويعلنا الاسـتعداد التـام للبحث عن الحقيقة فقط ، والاعتراف بها عند ظهورها.
  • الاعتراف بشخصية الآخر واحترامه، أما إذا كان أحد الطرفين لا يعترف بالآخر أصـلاً ولا يحترمـه حقيقة فلا جـدوى من الحـوار ولا داعي له بل ربما يؤدي الحوار الى تعميق الفجوة وكثرة المشاحنات وزيادة الكراهية، وهـو حينئـذ ضـرب مـن السـخرية والإهانة
  • الاختلاف بين الناس حقيقة إنسانية يقرّها الإسلام، وهذا يشكل ميزة من ميـزات الحـوار الحضاري الفاعل الذي يؤتي أكله بإذن االله، فمن العبث إلغاء التباين والاختلاف، ومن المسـتحيل تحويله إلى وفاق مطلق ولكن الحوار الناجح القائم على آداب وقواعد صحيحة يضيق شقة الاختلاف ولا يفسد للود قضية
  • ينبغي أن يذكر كل محاور حسنات افكار ورؤى زميله المحاور، وأن يقدّر جوانب الخير التي تتحلّى بها شخصية الاخر، وأن يعذره إن أخطأ ولايتصيد هفواته واخطاءه، ليتخذها ذريعة لتسقيط الآخر والنيل منه، وليس معنى الإعذار تصويب ما لدى الطرف الآخر من سـلوك وأفكـار، فالحق لا يتعدد،
  • من آداب الحوار التي ارست قواعدها الشريعة السمحاء عدم الاستعجال بالرد على الخصم حتى يفرغ من حجتـه، وان لا يقتطع من كلامه مايفيده في دحض حجة المقابل وتفنيد افكاره.
  • ان ما نراه من حوارات على بعض الفضائيات لا ينم الى ثقافة الحوار الصحيح بصلة اطلاقاً فهي اقرب الى الجدال حيث ترتفع الاصوات ويحاول المقابل ان ينال من شخص الاخر ويستهزأ بأفكاره مع تفشي واضح للألفاظ النابية والعبارات غير المنتقاة.

ان المولى عز وجل أمرنا بالحكمة في الدعوة واللين في الخطاب والرفق في المحاورة ، بل نهانا عن الإرهاب الفكري وفرض الرأي والسيطرة على العقول بالقوة، فقال تعالى : (لست عليهم بمصيطر) (الغاشية : 22) وقال تعالى: (أفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)(يونس:99)، فالإقناع والحوار والحجة هي الطريق الامثل لتقديم الرسالة وعرض المبادئ.

 ادب الحوار في مدرسة اهل البيت عليهم السلام

ضربت مدرسة اهل البيت عليهم السلام اروع الامثلة في فن الحوار والمحاورة وتقبل الاخر واحترام آرائهم ، ويمثل الحوار في مدرسة الإمام الصادق(ع) مرتكزا للتلاقح الفكري والثقافي، كما ويمثل أيضا المرتكز الأساس في بناء العلاقات الإنسانية، احترام الآخر والاعتراف بخصوصياته الدينية والفكرية، وهذا ما عبّر عنه الإمام الصادق(ع) بكل وضوح في تأكيده على عدم التعرض لكرامات الآخرين وخصوصياتهم أو النيل من أعراضهم، ولذا لما قُذف رجل مجوسي في محضره (ع) فقال للقاذف: مه، فقال الرجل مبررا قذفه له :إنه متزوج أمه وأخته! فقال(ع): “ذلك عندهم نكاح في دينهم(

ولم يعرف عن اهل بيت النبي غلظة او عنف لفظي مع محاوريهم، وهذا ما شهد به أحد كبار الملاحدة، ففي إحدى حوارات تلميذ الإمام الصادق (ع) المفضل بن عمر مع ابن أبي العوجاء نجد أنّ المفضل يقسو على ابن أبي العوجاء ويُغلظ له في القول مستخدماً عبارات من قبيل:  يا عدو الله ، ألحدت في دين الله وأنكرت الباري جل قدسه؟ فيجيبه ابن أبي العوجاء قائلاً: “يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبتت لك حجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر الصادق فما هكذا يخاطبنا ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا، وإنّه للحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق ويسمع كلامنا ويصغي إلينا ويستغرق حجتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أنا قد قطعناه أدحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه (بحار الأنوار ج3 ص58).

ان تعميق الوعي الديني في نفوس الكبار والصغار، وتربية الصغار في بلادنا الإسلامية على احترام حقوق الآخرين امر من شأنه ان يرتقي بأدب الحوار وتقبل الاخر والتعايش السلمي وهذه المعاني السامية يجب تعميقها في نفوس أبنائنا منذ الصغر لأنها تحمي مجتمعنا الاسلامي من كثير من المشكلات والسلوكيات والانحرافات التي نعانيها الآن .