د.محمد علي صنوبري
ستنشر «الوفاق» على عدة حلقات مشاهداتها الخاصة من بيروت كتبها لها الدكتور محمد علي صنوبري رئيس تحرير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية، وفيما يلي الجزء الثاني من هذه السلسلة:
دخلتُ مطعمًا فخماً في منطقة شمال بيروت. لم يكن هناك أي فرق في الأجواء الداخلية والخارجية للمطعم مقارنةً بأوروبا. كان من الصعب تصديق أنه على بُعد عشرة كيلومترات فقط من هذا المطعم، في المنطقة المعروفة بضاحية بيروت، يتعرض الناس يوميًا لقصفٍ عنيف بالعشرات من القنابل الثقيلة.
دخلتُ، وكالعادة، طلبتُ الطعام. بجواري، كانت هناك طاولة مزينة بأدوات عيد ميلاد. كان يجلس حول الطاولة ستة أشخاص، ثلاثة رجال وثلاث نساء يرتدون أزياءً أنيقة للغاية. وفي اللحظة التي أُضيئت فيها الشموع والألعاب النارية، قام مدير المطعم بتشغيل اللحن الشهير “Happy Birthday” احتفاءً بالسيدة التي كانت تحتفل بعيد ميلادها.
في تلك اللحظة، شعرتُ بحزنٍ عميق في داخلي. تساءلتُ: كيف يمكن للإنسان أن يكون بعيدًا عن آلام الآخرين إلى هذا الحد ولا يشعر بمعاناتهم؟ على بُعد عشرة كيلومترات فقط، حيث أبناء بلدهم ورفاقهم في الإنسانية يُقتلون ويُجرحون ويُهجّرون، بينما هؤلاء يستمرون في حياتهم الروتينية بكل بساطة ويحتفلون بأعياد ميلادهم.
نهضتُ من مكاني وتوجهت إلى الخارج. نظرتُ إلى السماء، وعلى عكس المناطق الوسطى والجنوبية من بيروت حيث تُسمع بشكل متواصل أصوات الطائرات المسيرة الصهيونية وتهتز الأرض والنوافذ بالانفجارات الضخمة العنيفة كل ساعة، لم يكن هناك أي أثر لصوت الطائرات ولا للانفجارات ولا الدخان! اقترب مني نادل المطعم وسأل: «هل هناك أمر ما؟» فأجبته: لا! إن دخان الألعاب النارية والنرجيلة أزعجني قليلًا، فخرجتُ لأتنفس هواءً جديدًا.
عدتُ إلى الداخل. كان الشبان الستة الأنيقين يتناولون الكعك والقهوة. كان اثنان منهم ليسا على مايرام. أحدهما كان ينظر بكثرة إلى هاتفه المحمول، مما لفت انتباهي لأرى إذا كان هناك فرصة للتحدث معه أم لا. كان شابًا في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره، يرتدي قميصًا أبيض مع ربطة عنق وبذلة زرقاء داكنة.
كان الوقت يمضي، فبادرتُ بتحيته سائلاً له الصحة والعافية. ردَّ علي بحرارة. عرّفتُ نفسي مخرج أفلام وثائقية وسألته إن كان لديه وقت للحديث معي. وقد وافق برحابة صدر. كان اسمه فادي وهو مولود في بيروت. سألته: هل هذه هي بيروت أم تلك التي تُظهرها وسائل الإعلام؟ فأجابني إجابة مفاجئة؛ حيث قال: قلب بيروت هناك، ونحن هنا أطرافها أي أيديها وأرجلها!!
يتبع..