تزداد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سوريا سوءاً وتزداد معها معاناة طلاب الجامعات في سبيل إكمال تعليمهم، إذ يواجههم اليوم الكثير من التحديات أبرزها السكن والمواصلات وارتفاع رسوم التسجيل وتكاليف شراء المحاضرات والملخصات الدراسية.
تشتري سلام من “نفق الآداب” ملخص المادة الامتحانية لفصلها الأخير في الجامعة، تمسك الأوراق بعناية، وتقول للميادين نت ضاحكة: “آمل أن تكون هذه الـ20 ألف ليرة الأخيرة التي سأدفعها من أجل التقاط صورة مع قبعة التخرج والوشاح الأسود”.
طالبة الأدب الإنكليزي هي الابنة المتوسطة لعائلة من ريف دمشق مكونة من خمسة طلاب. “كان بإمكاننا أن نفتح جامعة لكن أخي انسحب من الاتفاق مؤخراً”، تضحك سلام على مزحتها لكنها تصمت قليلاً وتستعيد معالم وجهها الجدية لتشرح: “الحياة صارت مكلفة كثيراً، والعلم بالنسبة لنا ليس رفاهية، يقولون إن التعليم مجاني لكنه ليس كذلك أبداً،أخي الأصغر الذي يدرس في كلية طب الأسنان أوقف تسجيله لأنه لم يعد لدينا ما نبيعه أو ما نفعله لنقدم له ثمن المواد التي يجب أن يستعملها في دراسته العملية، هو الآن يعمل في أحد المطاعم ريثما يستطيع جمع مبلغ يساعده على استكمال دراسته”.
وكانت وزارة التعليم العالي قد قالت إن عدد الطلاب الذين تقدموا بطلبات إيقاف تسجيل في الجامعات السورية قرابة 12 ألف طالب عبر طلبات خطية أو وكالات خاصة لطلاب خارج القطر، وذلك منذ العام 2013 وحتى الفصل الأول من العام الدراسي 2023 -2024، وتم فصل قرابة 7 آلاف طالب بسبب تجاوز مدة إيقاف التسجيل.
تعطي الشابة العشرينية دروساً خصوصية لبعض الطلاب في قريتها لتستطيع تغطية تكاليف دراستها وتقدم لأختها التي تدرس الهندسة المدنية ما تقدر عليه من مساعدة مادية، وتتابع: “أنا كليتي نظرية ولا تتطلب الحضور الدائم لذلك أوفر جزءاً من المبلغ الذي أخصصه كبدل سير وأقدمه لأختي فهي حضورها إلزامي، من ناحية أخرى سعر تصوير الورقة الواحدة بلغ 500 ليرة سورية وهو رقم قياسي.. كحل مؤقت نلجأ أنا والكثير من الزملاء في بعض الأحيان إلى الدراسة عبر الهاتف لكن أين هي الكهرباء التي ستكفينا؟!”.
“نقتطع من مصروف طعام الأسرة”
“استمرار السعي برغم انعدام الرغبة، هذه الجملة توصف حالتي بامتياز”، هكذا بدأت ميسون حديثها للميادين نت وهي تنتظر دورها في الطابور للحصول على الخبز، من نافذة “المعتمد” في المدينة الجامعية بدمشق. تنحدر ابنة العشرين عاماً من مدينة طرطوس الساحلية، وقد أتت إلى العاصمة قبل عامين للدراسة في كلية الإعلام الوحيدة في البلاد.
تتذكر ميسون بوضوح كيف انتابتها مشاعر الحماس وهي تسجل اسمها في المفاضلة، لكن هذه المشاعر لم تدم طويلاً بل “تبخرت بعد المجيء إلى هنا والإقامة في السكن الجامعي”، بحسب تعبيرها. وتضيف قائلة: “أنا ابنة الريف، وحالة عائلتي المادية متواضعة للغاية، إذ إننا نعتمد في دخلنا على الأرض فقط ووظيفة أبي الحكومية، عائلتي لم تقف في طريقي بل حاولت دعمي لتحقيق حلمي لكن للأسف استنتجت أننا كفقراء الحلقة الأضعف التي لا يهتم أحد لأمرها فإن تعلمنا أم لم نتعلم، الأمر سيان”.
الصحفية الشابة واحدة من خمس فتيات “ينحشرن” معاً في غرفة واحدة صغيرة بإحدى وحدات السكن الجامعي، الذي تخطى طاقته الاستيعابية منذ زمن طويل. وتشرح: “أولاً بالنسبة للنظافة، عدد الحمامات قليل والعديد منها خارج الخدمة وهي بالطبع مشتركة لكل الطابق، العاملات لا يأتين إلا في فترات نادرة، ونحن مضطرون لتحمل تكاليف المنظفات وتوزيع الدور فيما بيننا، في الصيف لا يوجد تبريد وتنقطع الكهرباء لساعات طويلة بسبب الأعطال المتكررة أو نفاد المحروقات بالتالي عدم تشغيل المولدات، في الشتاء قد تمضي أيام دون وجود مياه ساخنة فنضطر لاستخدام الوشائع الممنوعة التي تسببت بعدة حرائق سابقاً”.
أما بالنسبة للمذاكرة والدراسة فالوضع “ليس أفضل بكثير ” على حد تعبير ميسون التي تستخدم قاعة المطالعة في الطابق الأرضي من الوحدة مصطحبة معها بطانية شتاءً ومروحة يدوية صيفاً.
يقطع أهل ميسون من مصروف طعام الأسرة ويرسلانه لها برغم أنها تتقاضى مبلغاً شهرياً من عملها المسائي في أحد مولات العاصمة، لكنها تشعر بالحزن وتأنيب الضمير في آن واحد: “ليس لدي استقرار نفسي أبداً، لا تتوقف الأسئلة عن الدوران في رأسي أبداً، كيف سنتدبر أمورنا في ظل ارتفاع أسعار كل شيء،كيف سأعوض لأختي المهندسة الزراعية المتفوقة، طالبة الدراسات العليا التي توقفت عن الذهاب إلى الجامعة لأنه ليس لدينا المال الكافي لتحمل تكلفة التعليم الموازي؟!”.
السكن غالٍ والدخل منخفض
تجلس غزل على شرفة المنزل الذي استأجرته في حي المزة 86 مع صديقاتها، تجري بعض العمليات الحسابية على دفتر صغير، تغلقه متنهدة بحسرة وتقول للميادين نت: “هذا الأسبوع أيضاً لن أعود إلى السويداء”.
من المفترض أن تكون الشابة العشرينية في السنة الثالثة بكلية الهندسة المعمارية بجامعة دمشق لكنها رسبت في السنة الأولى لأنها لم تتأقلم مع السكن الجامعي الذي لا يوفر جواً مناسباً للدراسة على الإطلاق، وفق تعبيرها، ما اضطرها إلى البحث عن سكن مشترك على أطراف العاصمة، وتشرح: “قد يجد الآخرون الأمر غريباً لكنها المرة الثالثة خلال هذا العام التي ننتقل فيها من بيت إلى آخر نتيجة رفع المالكين الأجارات، لا يُقدّرون أننا طلاب بل يستغلون حاجتنا الماسة، فدمشق اليوم هي الأغلى في العالم من حيث أسعار العقارات برغم أن السكان هم الأخفض دخلاً”.
يُقدَّر عدد الطلاب الوافدين إلى دمشق من المحافظات الأخرى لأجل الدراسة بعشرات الآلاف، يضطر الكثير منهم إلى استئجار منزل مشترك لكن هذا الأمر لم يعد سهلاً بسبب عدة عوامل أهمها أن العاصمة تشهد أزمة سكنية خانقة بعد الحرب، نتيجة أعداد النازحين الكبيرة، كما أن إيجارات المنازل باتت مرتفعة بشكل كبير بحسب غزل، التي تختم حديثها بالقول: “لو لم يكن أخي في الإمارات ويرسل لنا الأموال بشكل دوري، بالتأكيد كنت تركت التعلم منذ وقت طويل، فإيجار الغرفة الواحدة هنا بلغ أكثر من 700 ألف ليرة سورية، ما يعادل 46$ في الوقت الذي تبلغ فيه الرواتب الحكومية حوالى 26$ فقط، هذا ولم نشمل معضلة السير الخانقة، فأنا أحتاج يومياً لتبديل وسيلتي نقل ذهاباً للوصول إلى الكلية واثنتين إياباً للعودة إلى المنزل بتكلفة 4000 ليرة سورية يومياً أي ما يعادل 6$ دولار شهرياً”.
سارة سلوم