هذه هي المحطّة الأخيرة

“مليون طائرة ورقية”.. تحمل قصائد أطفال غزّة

هذه الطائرات تحمل معها أحلام الأطفال، تحلّق بها بعيداً عن الحصار والسجن الكبير، إلى السماء التي لم يتبقَّ لهم سواها، علها تستجيب لهم.

2024-11-22

في واحدة من أبشع أنواع الإبادة الجماعية التي عرفها التاريخ، قد نتوقّع من الأطفال المحاصرين والجائعين، والمعرضين للقصف الوحشي اليومي، الكثير من البكاء، وربما مع قليل من الحظ، البقاء على قيد الحياة.

 

وماذا عن اللحظات النادرة التي قد يأخذ فيها المجرم نفساً، ليس للراحة بالطبع، بل للتلذذ بمنح ضحاياه سلاماً عابراً قبل أن يسلبهم إيّاه من جديد؟ قد نتوقّع منهم اللعب، والعودة إلى براءتهم الفطرية التي تعاند الإجرام. لكن بما أنّ الأطفال فلسطينيون، فهم يكتبون الشِعر وينظمون القصائد.

الرجال والنساء والكهلة والأطفال، الجميع يموتون، هذا قدر الإنسان. لكن الشعراء خالدون. مشكلة الصهاينة مع الفلسطينيين أنهم يولدون شعراء، والشِعر ليس بالضرورة في النظم. الشِعر روح حيّة، مقاومة للواقع، خروج عن التقليد، رفض للخنوع، تحدٍ وتحرر.

 

لو كان قتل الجسد مجدياً، لاندثرت القضيّة الفلسطينيّة. لكنّها الفكرة التي تؤرق الصهاينة، وهي تستمر في الانبعاث من جديد، إمّا على شكل حجر أو سلاح أو أبيات شِعر تخترق الحصار ويصل صداها إلى العالم أجمع.

«مليون طائرة ورقية»، كتاب بحجم الجيب، لكنّه ضخم بمحتواه، يتضمن مجموعة من القصائد والشهادات كتبها أطفال من غزّة تراوح أعمارهم بين الثلاثة والستة عشر. جُمعت نصوص الكتاب بين شهري تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وآذار (مارس) 2024، وهو من إعداد مؤلفة كتب الأطفال اللبنانيّة ليلى بو كريم، والفنان عساف لوزون، المقيمَين حالياً في برلين.

في حوار مع بو كريم، تكشف لنا المؤلفة عن فكرة الكتاب التي ولدت «بعد قراءة شعرية شاركت فيها في شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، إذ اخترت قراءة أربع قصائد كتبها أطفال فلسطينيون. كنت قد طبعت القصائد الفردية ووضعتها على مقاعد في القاعة. كان لوزون حاضراً وأخذ معه إلى المنزل قصيدة بعنوان «هل أنا حرّة إذا أصبحت واعترضت» للطفلة زينة أبو كويك، البالغة 13 عاماً.

 

تواصل معي في اليوم التالي واقترح إعداد كتاب مصوّر لقصائد الأطفال الفلسطينيين للمساعدة في نشر رسالتهم، وجمع الأموال التي سيعود ريعها إلى غزة. قبلت فوراً وبدأنا العمل. على مدى الأشهر الخمسة التالية، بحثت في وسائل التواصل الاجتماعي عن شهادات شفوية من أطفال غزّة، نشرها مدنيون وصحافيون. قمت بترجمتها وتنظيمها وأرسلتها إلى لوزون الذي قام بدوره برسم الرسوم التوضيحية وتصميم الكتاب.

 

قررنا أن نجعل الكتاب بحجم اليد، أو الجيب، أو كتاب صلاة، ليسهل على القارئ حمله معه، ومشاركته مع الآخرين. أردنا إيصال كلمات أطفال غزّة إلى عالم غير مبالٍ في الغالب، عالم اختار أن يتجاهل الرعب».

عالم خاطبته في كانون الثاني (يناير) الماضي لمى أبو جاموس، ابنة التسعة أعوام، وأصغر صحافية في غزّة كما يصفها الكتاب، في «تغطية صحافيّة» لها، وهي تقول: «مرحباً جميعاً، كما ترون، أنا هنا في رفح، بالقرب من الحدود المصرية.

 

هذه هي المحطّة الأخيرة التي سنذهب إليها. هؤلاء الناس ينامون في خيام ويشعرون بالبرد، وليس لديهم طعام أو ماء أو أي شيء على الإطلاق. الناس يعانون حقاً. طلبنا من العالم أن ينظر إلى ما يحدث. لكن العالم لم يستجب على الإطلاق. أتمنّى أن يوقف العالم هذه الحرب حتى نتمكن من العودة إلى ديارنا بسلام».

يحمل الكتاب عنوان «مليون طائرة ورقية»، الذي يرمز، وفقاً لبو كريم، إلى «الحرية، ولأنّ هناك حوالى مليون طفل في غزّة، كما إنّ الأطفال الفلسطينيين يحملون الرقم القياسي لأكبر عدد من الطائرات الورقية التي تم إطلاقها في وقت واحد».

 

هذه الطائرات تحمل معها أحلام الأطفال، تحلّق بها بعيداً عن الحصار والسجن الكبير، إلى السماء التي لم يتبقَّ لهم سواها، علها تستجيب لهم. تستغيث نادين عبد اللطيف (12 عاماً) بربّها: «لقد انتهيت، لم يعد باستطاعتي فعل أي شيء بعد الآن. لا يوجد منزل، لا يوجد ماء، لا يوجد طعام، لا يوجد أي شيء. هل أصاب بالجنون؟ لا أعلم. ربما أصاب بالجنون؟ لا أعلم، لم أعد أعلم.

 

من فضلك، يا إلهي، نحن نتوسل ونتوسل ونتوسل، أوقف هذا». نُشر الكتاب باللغة الإنكليزية في شهر أيّار (مايو) المنصرم، وترجم إلى الألمانية منذ حوالى الشهرين، «تلقينا عروضاً من متطوعين رائعين لترجمة الكتاب إلى اللغات العربية والإسبانية والإيطالية والفلمنكية وغيرها الكثير».

 

وتكشف بو كريم أنّه «تم بيع أكثر من ثلاثة آلاف نسخة من الكتاب حتّى الآن، ونحن في الطبعة الثالثة وسنواصل الطبع ما دام هنالك طلب. وبفضل كرم عدد من الأشخاص والدعم الرائع الذي أبدوه لهذا المشروع، تبرعنا بحوالى 14 ألف يورو لمنظمات وأفراد في غزّة وكذلك منظمات تساعد أطفال غزّة، منها: «صندوق غسان أبو ستة للأطفال»، وجمعيّة «إنقاذ الأطفال»، وجمعيّة «سولالا لإنقاذ الحيوانات»، وPalestine Humanitarian Response، و«مخيّم الجواد»».

تعب الأولاد من التشرد، ورغم وسع الخيال ولا محدودية التمنيات، لم يطمعوا. لم يرغبوا إلّا في ما هو لهم، كما هي حال أرضهم. تقول لينا الظاهر (7 أعوام): “لو كان في إمكاني العودة وأخذ شيء ما؟ لأخذت المنزل بأكمله وغادرت”.

 

رضا صوايا

 

المصدر: الوفاق/ وكالات