د. محمد علي صنوبري
ستنشر ”الوفاق” على عدة حلقات مشاهداتها الخاصة من بيروت كتبها لها الدكتور محمد علي صنوبري رئيس تحرير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية، وفيما يلي الجزء الرابع من هذه السلسلة:
قرابة الظهر، استأجرت تاكسي للذهاب إلى مركز تجاري كبير في وسط المدينة. وكالعادة، بدأت الحديث مع السائق، قال إن منزله في الجنوب قد دُمّر، وأن عائلته المكونة من زوجته وولديه يقيمون الآن في مدرسة في منطقة وسط بيروت.
أخبرني أنه يعمل كسائق تاكسي، وأن التاكسي ملكه، والحمد لله ليس لديه مشاكل مالية، لكن العديد من أقاربه وأصدقائه الذين جاؤوا من مدينة صور إلى بيروت لا يعملون ويعانون من ضغوط مالية.
سألته عن كيفية تعامل باقي الناس من كل طائفة ومذهب تجاهه، فأجاب: على عكس الأيام التي كنا نعاني فيها من الحرب الأهلية في لبنان، الآن الأمور جيدة جدًا. الجميع يساعدون.
وصلت إلى المركز التجاري. كان هناك ثلاثة شباب يرتدون ملابس مدنية يجلسون أمام الباب. حييتهم، فردوا السلام وقالوا: نحن عسكريون. لا يمكنك التصوير هنا (كانت في يدي كاميرا). قلت: أريد فقط التحدث مع الناس. قال: تحدث، لكن التصوير والتقاط الفيديوهات ممنوعان.
قلت أن لدي تصريح. فقالوا: هناك خطر… سألت: خطر ماذا؟ فقالوا: العدو يتجسس على الفيديوهات والصور التي يسجلها الناس في مناطقهم وفي المراكز التجارية.
العدو يتجسس عبر الواتساب، حيث يمتلك معظم الناس في لبنان حسابات واتساب، ويجمع المعلومات من هواتفهم المحمولة… قلت: لقد أجريت المقابلة الخاصة بي، وهذه المحادثة معكم تكفي.
فدعوني إلى القهوة، ثم شكرتهم وخرجت. مشيت في الشارع نحو ساحة کان فیها صورة كبيرة للإمام موسى الصدر. فتوقفت أمامي سيارة أجرة بيضاء جميلة من طراز مرسيدس بينز. فقلت له: خذني إلى الضاحية. فقال: الدخول إلى الضاحية ممنوع، لكنني سأوصلك إلى مدخل الضاحية. وبعد 6 دقائق، وجدت نفسي عند أحد مداخل الضاحية.
اقترب مني سائق دراجة نارية وقال: هل تريد توصيل؟ فركبت خلفه وانطلقنا، وبعد 500 متر، أنزلني وأخذ دولارًا واحدًا وعاد.
شغّلت الكاميرا وبدأت بالمشي. لم يكن هناك أحد غير سائقي الدراجات النارية في ذلك المكان. كان صدى خطواتي يتردد في الشارع الضيق الذي كانت على جانبيه منازل وشقق فارغة.
كان هناك صمت غريب يسود المكان، وكان الجو غائمًا جزئيًا، باردًا ونظيفًا جدًا. كانت قطرات المطر قد هطلت الليلة الماضية، وكان الهواء مليئًا برائحة المطر والأوراق والأشجار، ورائحة الخشب والأسلاك المحترقة أيضًا.
وإن أردت أن أعبّر عن شعوري بصراحة؛ فقد شعرت وكأنني في مسيرة الأربعين. حيث كان يقول أحد الأشخاص الكبار إن هذا الشعور يعني الحضور، يعني حضور الله، وحضور ولي العصر (عج) وحضور قلب عالم الوجود.
وصلت إلى زقاق ينتهي بمنازل مدمّرة. كانت هناك رائحة غريبة تنتشر في المكان. رائحة الزهور الربيعية وزهور الورق الوردية التي نمت كأنها أشجار كبيرة.
فجأة، سمعت صوت إطلاق نار في الهواء، بدا أن هذا إطلاق النار هو بمثابة تحذير أو صفارة إنذار من قبل القوات الأمنية لإبلاغ الناس بأن عليهم التحقق من تحذيرات القصف بالقنابل.
سارعت إلى تصفح الإنترنت على خط هاتفي اللبناني، وتفقدت تويتر وواتساب، كانت الشبكة بطيئة جدًا، وكنت أتحقق من هاتفي أثناء المشي، فجأة، سُمع صوت هائل واهتزت الأرض تحت قدمي.
كان شعورًا مشابهًا كأن كرتونة أو شيء ثقيل قد ضرب بقوة على السقف من الجيران في الطابق العلوي مما جعل المنزل يهتز. فشغّلت الكاميرا، الصورة الوحيدة التي استطعت التقاطها كانت لطيور تطير هاربة بفعل صوت الانفجار.
بعد نصف ساعة قرأت الخبر، ثلاثة شهداء و16 جريحًا في انفجار شقة سكنية في الضاحية، كان هؤلاء الأشخاص جميعهم مثلي يبحثون في هواتفهم عن موقع التحذير، لكن على عكس ما يعلنه الكيان المزيف بأن العملية ستحدث بعد عشر دقائق، ولكن قاموا بذلك القصف في وقت أبكر بكثير.
كان الناس يقولون إن أسوأ ما في الأمر هو أن الكيان الصهيوني يعلن عنوان مبنى معين لكنه يستهدف مكانًا آخر. في الواقع، هذا النوع من التحذيرات هو فقط لخداع الرأي العام الدولي، حيث أن كيان الاحتلال قاتل الأطفال لا يلتزم بأي قانون أو خط أحمر.
يتبع..