كيف يتفاعل الفنّ الفلسطيني اليوم مع الواقع بحيث لا يبدو منفصلاً عنه؟

“مُدُن لا تموت”.. سؤال الفنّ الفلسطيني في زمن الإبادة

الإبادة تشمل إبادة الذات والروح الفلسطينية، يصبح من الواجب الحديث عن التراث الفني الفلسطيني،وألا نتوقف عن صناعة وإنتاج فن فلسطيني مُشتبِك خدمة للمقاومة وتطويراً لأساليبها

2024-11-25

كيف يتفاعل الفنّ الفلسطيني مع حرب الإبادة في غزة؟ وهل إنتاج فن فلسطيني والحديث عنه في هذه الظروف ضرورة أم ترف؟

منذ أن بدأت حرب الإبادة ضد قطاع غزة في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أصبح الفنّ والحديث عنه يبدو ترفاً ورفاهية لا مكان لها، في بقعة جغرافية تهيمن عليها أخبار المجازر والدمّ فيها يغطّي نشرات الأخبار.

 

لكن، إذا تأمّلنا في الحرب المتواصلة على الفلسطينيين، نجد أن الاحتلال يسعى لإبادة كل ما هو فلسطيني، مقاتلين ومدنيين، وصولاً إلى كل ما يتصل بالفنّ والثقافة الفلسطينية بمفهومها الأوسع. هكذا يمعن الاحتلال منذ أكثر من عام في تدمير المواقع الأثرية والأرشيف ويقتل الفنّانين الفلسطينيين ويدمّر بيوتهم وورشاتهم الفنّية.

 

ولأنّ الإبادة تشمل أيضاً إبادة الذات والروح الفلسطينية، يصبح من الواجب الحديث عن التراث الفني الفلسطيني، وألا نتوقف عن صناعة وإنتاج فن فلسطيني مُشتبِك خدمة للمقاومة وتطويراً لأساليبها، خصوصاً أن رفاهية الانكسار، لا نملكها، نحن الذين نشاهد الإبادة من خارج جغرافيا غزّة، فكم مرة كانت الصورة أو اللوحة أو مقطع فيديو مصوّر أفضل من 100 نشرة أخبار؟

 

ذلك أن العمل الفنّي يوفر مساحة أوسع وأكثر حرّية وشخصية لفهم الوضع السياسي العام متجاوزاً القوالب الإخبارية الروتينية. وعليه، فإن إنتاج الفن الفلسطيني والحديث عنه ونقده اليوم ضرورة وليس ترفاً، في حين يبقى السؤال: كيف يتفاعل الفنّ الفلسطيني اليوم مع الواقع بحيث لا يبدو منفصلاً عنه؟

 

“عن مُدُن لا تموت: سرديات المحو والتحرر”

 

حتى نهاية تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، تتواصل في القدس فعاليات معرض “عن مُدن لا تموت”، بمشاركة 17 فنّاناً وفنّانة فلسطينية من كافّة مناطق فلسطين التاريخية والشّتات، وهو معرض فنّي من إنتاج واستضافة “حوش الفنّ الفلسطيني” المتخصّص في حقل الفنون البصرية.

 

ويضم المعرض أعمالاً متنوّعة من حيث الأسلوب والمواد المستخدمة ويشمل لوحات ورسومات مائية وزيتية، وخيوط وألوان إكريليك على قماش، ومقاطع فيديو مركّبة، ونسيجاً من قشّ وخيش، وحرقاً على خشب، ومطبوعات وأقمشة مطرّزة، إضافة إلى قصص مصوّرة وطباعة تناظرية.

 

روان شرف، قيّمة المعرض، تحدثت حول التحديات التي تواجه إنتاج الفن الفلسطيني وتنظيم المعارض في وقت الإبادة.

 

وقالت: “لا أعرف من أين أبدأ. لكن التحدي الأكبر هو نفسي ويتعلق بسؤال الجدوى. ماذا يفترض أن يفعل إنسان يتعرض شعبه للإبادة؟ هل يصنع فناً؟ معرضاً؟ كان هذا السؤال الجوهري. وكان أيضاً جزءاً من حالة الصدمة التي ما زلنا نعيشها كفلسطينيين نعيش حالة إبادة – في الوقت نفسه ثمة سؤال أخلاقي: هل ننظّم معرضاً فنياً وسط الإبادة؟ ولهذا كان دور كبير في كيفية تحوير ومسار ثيمة المعرض.

 

كان السؤال حاضراً ولم يغب للحظة. وربما ما تمخّض عن هذا السؤال هو استنتاجنا أن للفن والثقافة، على الأقل، دوراً أساسياً في تشخيص اللحظة وتعريفها وفي محاولة بناء وعي لا يخص فقط اللحظة الآنية، وإنما وعي يشكل جزءاً من 75 سنة تتسم بالإبادة والتطهير العرقي”.

 

وأضافت “نعلم تماماً أن ما فعلناه لا يوقف الإبادة، لكن على الأقل أشعرنا أننا نحن كبشر، فكرنا وإنتاجنا ووعينا ليس مفصولاً عن الواقع – على العكس تماماً، يحاول التشخيص والفهم والمساهمة على الأقل في ألا يكون إبادة على الوعي في لحظات إبادة كل شيء”.

 

وتشرح شرف “كان لدينا قلق كبير في ظل العدوان الإسرائيلي الواسع على كل شكل من أشكال التعبير عن الفلسطيني، وحقيقة أننا نعمل في القدس هو جزء آخر من قلقنا. ماذا سيحدث؟ هل يمكننا تنظيم معرض يحمل هذه الثيمة؟ ماذا ستكون التبعات؟

 

طبعاً لم يوقفنا القلق من الاستمرار، لكن لا أخفي أن القلق حاضر لأسباب منطقية، إضافة إلى التحدي القائم بشكل دائم وهو قدرة المؤسسة الفلسطينية على العمل في القدس في ظل منظومة تسعى لمحو أي شكل من أشكال البنى الاجتماعية الفلسطينية، والتطوع من قبل شبان وشابات في المدينة بذلوا كل مجهود وقلب وفكر لإنجاح المشروع ساعدنا في اجتياز المصاعب”.

 

يمكن لزائر المعرض اعتبار كل عمل فني في داخله، عملًا فنّياً مكتمل الأركان، لكنّ كل الأعمال مجتمعة تقدّم سرديات عن المحو والتحرّر: عن مدن لا تموت.

 

 

أما حول الربط العام بين الأعمال المختلفة فتحدّثت شرف قائلة إن: “أساس الربط هو قرار قِيَمي وتحكم عليه محددات لها علاقة بالمساحة وموقع العرض وطبيعة العمل وخامته وشكله. للمعرض ثيمة عامة وهو “عن مدن لا تموت”، ويتحدث بالأساس عن مفهوم إبادة المدن في فلسطين بصفتها سياسة ممنهجة قائمة من قبل النكبة وتتجلى بأشكال مختلفة.

 

جزء منها عنيف وصارخ ومتوحّش كما يحدث في غزة، وجزء آخر يحدث بمناهج وأشكال ثانية، ولا أعتقد أنه يوجد إنسان واحد في فلسطين لا يستطيع الإشارة إلى شكل معيّن من أشكال الإبادة على المساحات وعلى الإنسان الفلسطيني في هذه المساحات – وفي هذا المعرض كان الربط بين الأعمال يحدده العامل المكاني، لكن بالتأكيد في كل قاعة لدينا خط معين يربط بين الأعمال الموجودة ويفتح المجال للتكامل أو للحوار.

 

على سبيل المثال، إحدى القاعات تناولت مدينة القدس كثيمة أساسية وتهجير الفلسطينيين من حيّ المغاربة بعد العام 1967 وكيف تأثر الناس بفعل التطهير العرقي”.

 

وتتابع “من وجهة نظري، كقيّمة معارض، لا يوجد أي عمل فني كامل ومكتمل، أبداً. الفن دائماً في حالة سيرورة، لا يوجد معايير ثابتة في عالم الفن، ولا على المستوى الشخصي أو الإنساني. الفنّ يمرّ بحالة تشخيص وتشكيل وتوسّع وتمدد وتبدّل وتطوّر.

 

وفي مكان كبلدنا، المواضيع التي يطرحها الفن هي قضايا شائكة تاريخياً وثقافياً ومؤلمة شخصياً، على مستوى المشاعر أو مستوى وعي الذات والهوية – فبالتأكيد هي مواضيع في حالة بحث واستقصاء دائم.

 

الكثير من الأعمال الموجودة في المعرض امتداد لبحث سابق للفنانين المشاركين. على سبيل المثال، عمل الفنان بينجي بويدجيان هو امتداد لبحث بدأ فيه قبل 15 عاماً، ويفحص التغيّيرات والسياسات الاستعمارية التوسّعية للمستوطنات في وادي الشامي الذي يوصل بين القدس وبيت لحم والقرى المحيطة، وكذلك جبل أبو غنيم الذي أقيمت عليه مستوطنة “هار حوما”.

 

بينجي شارك في 15 لوحة في المعرض وفيديو واحد من سيرورة هذا البحث الذي يحوي عشرات اللوحات الأخرى، لوحات توثّق الوادي، وآثار اعتداءات المستوطنين عليه وآثار البيوت المهجرة وطبعاً الآثار البيزنطية والعثمانية وكل هذه اللوحات هي فقط جزء من المشروع الذي يعمل عليه”.

 

كيف سيكون شكل الفنّ ما بعد الإبادة؟

 

 

في حوار سابق، أكّد الفنان الفلسطيني سليمان منصور أن الفنّ طالما تفاعل مع الظروف السياسية المحيطة وتغيّر بتغيّرها، ففلسفة الانتفاضة الثانية أثرت في مفهوم استقلالية الفنان والاكتفاء الشعبي، ما أجبر الفنان الفلسطيني على استخدام ما توفّر من المواد الخام المحلية كالطين والحناء كي لا يضطر إلى شراء منتجاته من المستوطنات.

 

أما اليوم، فيؤكد منصور، وهو أحد الفنانين المشاركين في المعرض، أنّ مطالب التجديد في الفن الفلسطيني بدأت مع بداية العام الجاري وهذه المطالب كانت من بعض الفنانين والمثقفين، مضيفاً: “هذه المذبحة غيّرت العالم فكيف لها ألا تغير الفنّ؟ هذه الحرب لم تعطنا أدوات لتغيير الفن كما فعلت الانتفاضة الأولى. حتّى الآن، تميزت الألوان التي تعكس هذه المذبحة باللون السكني بدرجاته وغلب هذا اللون على أعمال الفنانين. في غزة لم يستطع الفنانون هناك أن يشكلوا رافعة لتغيير الفن الفلسطيني لأن غالبيتهم أو كلهم فقدوا مراسمهم وأدواتهم، وما يأتينا من هناك هو بالأبيض والأسود أو بقلم الرصاص أو الحبر على ورق”.

 

ويشرح منصور “بعض الفنانين، وأنا منهم، توقفنا تقريباً عن العمل لأن كل ما نفعله لا يتوازى مع هول المذبحة أو مع ما نطمح إليه. هناك بالطبع محاولات لكنها أوصلتني إلى قناعة أن لا الأسلوب ولا الفلسفة التي كنا نسير عليها تعكس وضعنا الحالي.

 

أنا الآن أعتقد أن التغيير قادم لا محالة، لكن يجب أن يأتي هذا التغيير من خلال العمل وبالتدريج، إذ لا يمكن أن تتغير الحركة الفنية بكل المسؤوليات الثقافية الواقعة عليها بكبسة زر، بل من خلال العمل وبعد أن تكون الأحداث قد انتهت وتم استيعاب نتائجها ووقائعها من قبل المجتمع والفنانين.

 

ذلك أن كثيراً من الفنون التي تعكس الحروب الكبيرة تم التعبير عنها فنياً بعد سنوات عدة من انتهائها. على كل حال، هنالك بعض الخطوط العريضة التي لاحظها أو تنسمها العديد من الفنانين وهي عدم التكلف والبساطة (عدم استعراض العضلات)، والتقليل من استخدام الألوان البراقة، وضرورة وجود فكرة. أمّا إذا أصر الفنان على الاستمرار بأسلوبه وطريقته، فعليه أو عليها إحداث تغيير على ما كان يقوم أو تقوم به حتى ولو بنسبة 10%”.

 

من جانبه، يقول عز الجعبري، ابن مدينة الخليل، وهو فنّان مشارك في المعرض إنه: “في الوقت الحالي لا نستطيع تحديد الأثر الذي تركته حرب الإبادة على الفنّ الفلسطيني أو تأطيره ضمن إطار ما. لكن، ما أراه أن الإبادة أحدثت صدمة للفنّ الفلسطيني وفرضت سؤالاً حول دور الفنّ.

 

ربّما لأن دوره كان شبه مغيّب أصلًا وهذا السؤال بحد ذاته إشكالي وخلق تشوّش، وذلك لأننا أصبحنا كشعب نبحث عن دور لكل شيء بدلاً من أن نكون كياناً واحداً. وقد يكون هناك أثر إيجابي أو سلبي، فالإبادة جعلت فكرة “الوضوح” في الفنّ، وعن ماذا يعبّر الفن، واضحة أكثر. لكن الفن ولغاية الآن بشكله الحالي، ومن وجهة نظري، عاجز لأن جزءاً واحداً من المجتمع لا يستطيع إيجاد وتحديد دوره بعيداً من باقي الأجزاء”.

 

ويضيف الجعبري “الحالة الفلسطينية أصابها التشتّت إلى درجة أن الجسد مقطّع عن بعضه، وكل جسد يسأل ماذا يمكن أن أفعل مع إهمال فكرة العودة إلى الجسد الواحد. أثر الحرب الحالية سيتم إدراكه بعد سنين طويلة، ليس فقط على صعيد الفن، وسؤال الفن سؤال صعب لأنه يقسم ويفصل، كباقي الأسئلة التي نطرحها كمجتمع”.

 

ما لا يُرى

 

 

“ما لا يرى”، خيوط وألوان أكريليك على قماش، هو أحد الأعمال الفنية للجعبري، ويقول عنها: “فكرة العمل هو أنّ الإبادة تحدث بأوجه عديدة كالإبادة الفيزيائية الشنيعة والمرعبة التي تحدث في غزة، إبادة بفعل المحو والدّفن. وفي مدينة الخليل، يحدث فعل إبادة ربّما أكثر خبثاً وتغلغلاً، لأنه لا يبيد فيزيائياً، بل يأخذ ويحوّل ويسرق ويفعل عملية “الإحلال”.

 

بمعنى أنه يغيّر سردية الشيء وشكله، ومعه يغيّر الناس بهدف أن تصبح سردية الأرض المُعاشة تابعة للاحتلال وليس لسكّانها. وبالتالي، تحدث عملية التجهيل والمحو المتعمَّد لذاكرة الناس. مدينة الخليل، ومع كل التحوّلات التي حدثت فيها، مخيفة لدرجة أن الناس لا تستطيع إدراك أثرها اليوم وكيف غيّرت أرواحهم وأنفسهم”.

 

زهرة سعيد
صحفية من فلسطين

 

 

المصدر: الوفاق/ وكالات