يمكن تناول موضوع الأزياء الشعبيّة من حيث أنّها ظاهرة اجتماعيّة، أو من الناحية الوصفيّة البحتة. وفي الأسلوب الأوّل، ندرس الملاحظات الاجتماعيّة ونستند بذلك إلى ما نجده من إشارات حول ذلك في تراثنا الماضي، وإلى ما نلاحظه من أمور في حياتنا الحاضرة. أمّا في الأسلوب الثاني، فنحن نجمع بالصورة والكلمة كلّ ما يتعلّق بموضوع الأزياء جمعًا أرشيفيًّا، وبالطبع، يستدعي ذلك توفّر إمكانيّة مسح عامّ للأزياء وتتبّع ذلك عبر الماضي البعيد، وهي عمليّة غير ذات قيمة إذا اقتصرت على مسح حاضر الأزياء بمعزل عن الماضي، كما أنّه من الضروريّ أن يرتبط ذلك بالتاريخ والدين والتقاليد الاجتماعيّة وملامح الحياة الشعبيّة بصورة عامّة.
الواقع أنّ هذا المقال هو محاولة للمزاوجة بين دراسة الملاحظات الاجتماعيّة والإسهام بالنواحي الوصفيّة. ومن الضروريّ التركيز في الاهتمام على الناحيتين معًا؛ فالاستقراء مرتبط بتوفّر نتائج المسح العامّ، وكلّما توفّرت المعلومات عن الأزياء الشعبيّة، بما في ذلك جذورها التراثيّة، فإنّ الدراسات تصبح أغنى وأكثر جدوى.
الحياة الاجتماعيّة والأزياء الشعبيّة
إنّ الأزياء الشعبيّة الّتي لا نزال نشاهد أشكالها وألوانها المختلفة والجميلة في قرانا وباديتنا، ما هي إلّا بقايا أزياء قديمة توارثها الناس جيلًا عن جيل وطائفة عن طائفة. وما التباين الّذي نلمحه على سطح هذه الأزياء إلّا انعكاسات لمؤثّرات دينيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ومناخيّة، وكذلك تاريخيّة.
إنّ تتبّع هذه المؤثّرات لهو دراسة غنيّة ومفيدة تزخر بالفرائد الفنّيّة المتنوّعة، وبكلمات أخرى، فإنّ ربط الأزياء الشعبيّة بالطوائف والأقلّيّات والهجرات والحروب والملامح الدينيّة والظروف الاقتصاديّة والمناخيّة، إلى جانب التراث العربيّ التليد الّذي يمثّل المؤثّر الرئيسيّ، إنّ ذلك الربط لهو عمل تاريخيّ يحتاج من العناية والاهتمام والمتابعة الشيء الكثير.
والأزياء الشعبيّة في غالبها فنّ نسويّ؛ فبينما نجد الريفيّ أو البدويّ يكتفي بالثوب أو «الديماية» أو «الكبر» مع بعض الملابس الداخليّة البسيطة، إضافة إلى ’الحطّة والعقال‘، نجد أنّ ملابس النساء تزداد كثرة وتنوّعًا وتعقيدًا. ويدخل في ملابس الريف أمور كثيرة منها اللون والتطريز والقطع المتنوّعة الّتي تخدم أغراضًا شتّى؛ فهناك ’التقصيرة‘، و’العصبة‘، و’أكمام الردن‘ الزاهية الألوان والمنفصلة عن الثوب الأصليّ، وكذلك ’رفعة الصدر‘ الّتي قد يستغرق تطريزها أكثر من شهرين، وهناك ’الشطوة‘، و’المنتيان‘ وقطع ’البرالين‘. ولا شكّ أنّ هذا التباين بين ملابس الرجل والمرأة في الريف يستدعي كثيرًا من التأمّل؛ فالمعروف أنّ الريفيّ وكذلك البدويّ، يصرف الأشهر الطوال من السنة في ’عطالة‘ متواصلة، والمعروف أنّ المرأة تشاركه أشهر العمل في الحصاد وغيره، حتّى إذا ما دنت الأشهر ’الفارغة‘، انصرف الرجل إلى ’المضافة‘ يلعب ’السيجة‘ في النهار، ويستمع إلى شاعر أو حكواتيّ يقصّ أخبار عنترة بن شدّاد وأخبار بني هلال في المساء. أمّا المرأة، فتظلّ في البيت الّذي لم يكن عمله يستغرق إلّا جزءًا ضئيلًا من وقتها بفضل البساطة المتناهية في المعيشة. ولذلك، كان على المرأة أن تصرف الفراغ في زخرفة ملابسها والتفكير في تحسينها وتطويرها وجعلها تضفي عليها رونقًا وبهاءً.
وللريفيّة دور كبير ونصيب عظيم في تصميم الأزياء وزخرفتها برسوم تلقائيّة وتقليديّة. وقد توارثت المرأة هذا الفنّ عن الأمّهات والجدّات، والمعروف أنّ المرأة عمومًا أكثر انسياقًا للدارج من الأزياء من الرجال، وذلك رغبة منها في التزيّن، ومن جهة أخرى لدغدغة غرورها والظهور بين الأقران في مرتبة عالية. ولم تغفل الأغنية الشعبيّة عن هذه الظاهرة، فنسمع الرجل يتباهى بسيفه والمرأة تتباهى بـ ’شنبرها‘: “يا بنت ياللي بالقصر/ طلّي وشوفي فعالنا/ وانت غواك شنبرك/ واحنا غوانا سيوفنا”.
وقد لاحظ أناتول فرانس، أنّ النساء لا يتزيّن لأزواجهنّ، بل ليظهرن أمام أترابهنّ بالغنى والثراء؛ فهنّ يتمسّكن بهذا الاعتبار لمنافسة غيرهنّ في اكتساب الرجال. ويؤيّد ذلك أنّ للكثير من القرويّات ثوبًا واحدًا فحسب، تستعمله للخروج، ويكون عادة جميلًا وجديدًا، بينما ترتدي في البيت الأشياء البسيطة. ولا شكّ أنّه بالرغم من اعتبارات العمل في البيت، فإنّ اعتبارات المظهر الجميل واردة في هذا المجال.
الأزياء والتقليد
إنّ تقليد الجديد والعزوف عن القديم في الأزياء الشعبيّة أمر متعارف عليه؛ ذلك لأنّ الأزياء علامة التجدّد وأمارة الحيويّة، بواسطتها يجدّد الريفيّ حياته وكأنّه يقلّد الطبيعة الّتي حوله وهي تتجدّد في مطلع الفصل الدافئ.
وإذا كان التجديد في الأزياء الشعبيّة غير جذريّ، فإنّه يحمل الرغبة في التخلّص من المظاهر الّتي توحي بالانغلاق والجمود؛ فالشابّ القرويّ ترك جانبًا العمّة الّتي كانت زيًّا شعبيًّا عامًّا في مطلع هذا القرن واكتفى بالحطّة والعقال، وهو أيضًا استغنى عن الحزام الحريريّ الثقيل العريض، واكتفى بحزامٍ من الجلد، أو ’الجنزير المطعّم بالحرير‘، أو حزام مشغول من الخرز. وتحوّل ’المركوب‘ الثقيل إلى حذاء عاديّ بسيط. ولا شكّ أنّ هذه التجديدات كانت مجرّد بدعة من بدع الشباب، إلّا أنّها ما لبثت أن أصبحت تقليدًا متعارفًا عليه؛ فالأزياء في العادة تصدر عن حبّ الطرافة وإيثار الجديد، وتلك رغبة نابعة من تصوّر الإنسان لحياته ومفهومه عنها.
وبالإضافة إلى دور الشباب في التجديد، فهناك دور الأغنياء في القرية الّذين يبدأون الزيّ أو نوعًا جديدًا من القماش على الأقلّ، وذلك إيحاءً منهم للآخرين بعلوّهم الاجتماعيّ، حتّى إذا صار الزيّ أو نوع القماش مألوفًا لدى عامّة الناس في القرية، تركوه وبدأوا بزيّ جديد.
بين الجديد والقديم
وبالرغم من الرغبة الملحّة في التجديد في الأزياء والبحث عن كلّ ما هو طريف وجميل، فإنّ التمسّك بالزيّ ظاهرة عامّة في الريف. ويقول المثل الشعبيّ: “اللي بغير لبسه بغير جنسه”. ولذلك يقاوم الريفيّون ارتداء القبّعة أو البنطلون القصيرة، كما يقاومون ارتداء القميص الشفّاف الّذي يبرز ملامح جسد الإنسان. ولا شكّ أنّ ذلك عائد لكرههم للأجانب الّذين جثموا طويلًا على صدر بلدهم، وكان مجرّد رؤية القبّعة والبنطلون القصير كافية لاستذكار مساوئ العهد الاستعماريّ. وتتحكّم العادة عند الريفيّين في تحديد نوع اللباس، وهم لا يتساهلون في الخروج على العادات، فيقاومون أولئك الّذين يخرجون حاسري الرؤوس من الشباب، وبمقدار أكبر يقاومون تقليد الفتيات للأزياء الحديثة. وهو تعبير داخليّ عن المنافسة؛ فالقرويّون، وخاصّة الكبار في السنّ منهم، يخشون على نسائهم وبناتهم الغواية من أولئك الشباب الّذين يلفتون الأنظار بأزيائهم الحديثة وطريقتهم في ارتدائها.
ولا يعني التقليد أنّه خطوة للأفضل دائمًا؛ فهناك الملابس التقليديّة الّتي ارتضاها الريفيّون وظلّوا يستعملونها حتّى أصبح من الصعب الخروج عليها. ويحسّ الريفيّ أنّ كلّ العيون تلسعه إذا هو حاول أن يغيّر ولو تغييرًا طفيفًا في زيّه.
وتلعب العوامل الدينيّة والاقتصاديّة دورًا بارزًا في تثبيت الملابس التقليديّة؛ فيعتبر الريفيّون الدراويش والمشايخ ممتّنين للتديّن، ولذلك، فإنّ كلّ من توفّر فيه ميول دينيّة معيّنة، يأخذ في تقليد أولئك المشايخ ورجال الدين بلبس العمامة والجبّة. وكذلك فإنّ الدين الإسلاميّ يحرّم على الرجال ارتداء الحرير والذهب، وفي ذلك مظهر من مظاهر الحفاظ على طبيعة الأزياء ولو من زاوية معيّنة. ومثل ذلك دور العوامل الاقتصاديّة؛ فالغنيّ يلبس الصوف والحرير و’العقال المرعّز‘، و’حطّة الحرير‘ المعصّبة، وتلبس امرأته المخمل والحرير، في حين يكتفي الفقيرة بـ ’الديماية‘ البسيطة المجدلاويّة والحطّة الخفيفة، وكذلك يلبس أيًّأ من الأحذية. ويستمرّ التقليد سائدًا عند كلّ فئة من الناس لدرجة يصبح فيها الزيّ تعبيرًا عن الفئة الّتي ينتسب إليها الإنسان في المجتمع.
نمر سرحان