للمسرح السياسي الساخر في الأردن تاريخ وأعلام وأعمال ما زالت محفورة في ذاكرة الأردنيين والعرب… أين أصبح اليوم؟
كثيراً ما يرتبط الفن والمسرح في أذهاننا، نحن العرب، بالترف واللهو، ويغيب عن بالنا دائماً أن الفنون، وعلى رأسها المسرح، لها دور في بناء المجتمعات.
في هذه الأيام تمرّ الذكرى الثانية لرحيل المسرحي الأردني محمد الشواقفة، الذي شكّل مع الفنان الأردني موسى حجازين، الذي عُرف باسم “سمعة”، ثنائياً في المسرح السياسي الساخر الأردني. في السطور التالية محاولة لفهم قيمة المسرح السياسي عموماً، والساخر خصوصاً، وانعكاس الظروف الحالية التي يمر فيها الأردن خصوصاً، والعالم العربي عموماً، على المسرح السياسي.
تاريخ المسرح السياسي في الأردن
تروي أستاذة المسرح في الجامعة الأردنية والمخرجة المسرحية، مجد القصص، لــ “الميادين الثقافية”، كيف بدأ الشواقفة، رفقةَ الفنان الأردني موسى حجازين، مرحلةً جديدة في المسرح السياسي المباشر.
قبل ذلك تروي القَصَص بداية المسرح السياسي في الأردن، مبينة أنه “أخذ أكثر من شكل”، وتوضح أن “أول ظهور له، على سبيل المثال، كان على يد حاتم السيد الذي تخرّج من مصر وأتى إلى الأردن، وقام بإخراج عدد من المسرحيات، التي كانت ترمز إلى قضايا سياسية”.
وتشير القصص إلى أن التلميحات الضمنية استمرّت من خلال الرموز في المسرح السياسي إلى أن “أتى المخرج محمد الشواقفة مع الفنان موسى حجازين وشكلا ثنائياً لا يمكن تجاهله. وبدأت مرحلة جديدة في المسرح السياسي المباشر”.
وترى القصص أن لرفع الأحكام العرفية وتوسيع مساحة الحريات بعد عام 1989 دوراً فيما سبق. وتستذكر بعض الأعمال التي قدمها الثنائي، الشواقفة وحجازين، مثل “زمان الشقلبة”، و”سمعة في أميركا”، و”هاي مواطن”، و”هاي أميركا”، وصولاً إلى “من يهمه الأمر”.
بحسب القصص، فإن الشواقفة لم يكن مهتماً بالشكل، بقدر اهتمامه بالمضمون، واعتماده على البطل الأوحد، كما يُسمى في المسرح. وكان هذا البطل في مسرحيات الشواقفة هو البطل الشعبي موسى حجازين. و”بسبب موهبة موسى حجازين الكبيرة، استطاع الشواقفة، من خلال موسى، القيام بأعمال جريئة، وفيها نقد لاذع من خلال اختيارها الكوميديا وسيلةً لإيصال الأفكار”.
وتضيف أن “شهرة الفنان حجازين التلفزيونية، ونجاحه في تقديم شخصية سمعة في مسلسل “أبو عواد” للراحل نبيل المشيني، وتميزه، أدّت إلى استقطاب عدد كبير من الجمهور. وكانت العروض دائماً ممتلئة والمقاعد دائماً محجوزة”، مؤكدة أن “الشواقفة وحجازين لامسا قضايا الناس، وانحازا إلى بساطتهم وأحلامهم”. لذلك، رأت أن هذا العمل الثنائي هو “نقطة مضيئة في تاريخ المسرح الأردني”.
أثر الانفتاح والحس القومي في المسرح
شهدت تلك المرحلة ازدهاراً في المسرح السياسي الأردني. فإلى جانب الثنائي، الشواقفة وحجازين، والذي أثمر عدة مسرحيات ساخرة، اشتهرت المسرحيات السياسية الساخرة، التي قدمها كل من نبيل صوالحة وهشام يانس، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، بل إنهما، في ذلك الوقت، مثّلا شخصيات زعماء عرب بصورة ساخرة.
يرى الفنان الكوميدي الأردني نبيل صوالحة، في حديثه إلى “الميادين الثقافية”، أن المسرح السياسي يتأثر بالظروف السياسية عموماً. وفي التفاتة منه إلى واقعنا العربي، يؤكد أن “اختفاء الخط القومي العربي أثّر في المسرح السياسي كثيراً”.
يتذكر صوالحة تلك المرحلة قائلاً: “لم يكن لدينا حدود إلّا العقلانية”، ويتابع: “عندما بدأنا نحن أول مسرحية، بعنوان “نظام عالمي جديد”، وتضمنت تمثيل شخصيات كان بينها عدد من الزعماء، جاء الأمير رعد وقال: أين الملك حسين؟”، متسائلاً لماذا لم يتم تناول شخصية الملك حسين في مسرحيتهم.
ويضيف: “نحن تجمدنا لأننا اعتدنا الخوف، لكن، في ما بعدُ، كان يأتي الملك حسين ويرى نفسه على المسرح، وفي بعض المرات نوجّه إليه كلاماً ساخراً”.
يتطرق صوالحة إلى تلك المرحلة بشيء من التحليل، مبيناً أنه في التسعينيات، بعد حرب الخليج الثانية، قاطعت عدة دول الأردن بسبب موقفه الداعم للعراق وصدام حسين، فاستغل المسرح السياسي تلك الفرصة، لأنه قبل ذلك، على حد تعبير صوالحة، كان تمثيل زعامات عربية غير ممكن حتى لا تغضب تلك الزعامات. أمّا وقد أصبح الأردن مُقاطَعاً بسبب موقفه السياسي، فأصبح في الإمكان التطرق إلى كثير من القضايا، على نحو وصل إلى تجسيد الزعامات العربية في مسرحيات سياسية ساخرة.
يقول صوالحة: “انطلقنا في ذلك الوقت، وكنا ندفش الخطوط الحمر، ولا نكسرها”، مُؤكداً أن “هذا فن قائم في حد ذاته”، وموضحاً أن “دفش الخطوط بأسلوب كوميدي يجعلها مقبولة من الجميع”. ويستشهد بمقولة للصحافي الأردني الراحل، فهد الفانك، عندما قال مرة “لماذا نبيل صوالحة يستطيع أن يقول على المسرح ما لا أستطيع أن أكتبه؟”. حينها، أجابه صوالحة: “لأني أنا بساويها ملبسة ع لوز يا حبيبي”.
ويُقارن صوالحة الوضع السابق بالوضع السياسي اليوم، قائلاً: “اليوم، لا نستطيع تقديم زعماء على المسرح”. كما يؤكد أن الظرف السياسي المتراجع، والحس القومي الذي غاب، ألقيا ظلالهما على المسرح السياسي.
ويضيف أن “الخط العربي القومي، الذي كنا نعمل على أساسه، ومنه أن القضية الفلسطينية هي قضيتنا الأولى، اختفى. فلم يبقَ لنا إلّا أن نضحك، بعضنا على بعض”.
ويعلّق على ما سبق قائلاً: “الآن تقريباً، ضاقت القلوب والعقول في العالم العربي، حكوماتٍ وشعوباً، للأسف، وما كنا نستطيع قوله في الثمانينيات والسبعينيات، لا نستطيع قوله الآن، لا عبر التلفزيون الأردني، ولا في أي مكان آخر”.
ويؤكد أن “البيئة، التي يمكن أن ينمو فيها المسرح السياسي، هي البيئة المنفتحة وليست المنغلقة، وعندما يكون هناك خط سياسي واضح، وعند الأمة التي لها طموح ولها رؤية”، مبيناً أن “كل هذا اختفى في الوقت الراهن”.
قصة المسرح السياسي
تؤكد القصص أن المسرح السياسي في العالم يرتبط باسمين كبيرين، هما الألمانيان إيروين بيسكاتور (1893-1966) وبرتولد بريخت (1898-1956)، مبينة أن بيسكاتور حوّل المسرح إلى برلمان، وأمسى الجمهور بمثابة هيئة تشريعية، وطرح آفاق المشكلات الاجتماعية والسياسية، فهو يُعَدّ من مؤسسي المسرح السياسي في العالم.
عدّ بيسكاتور المسرحَ وسيلةً تعليمية ـ تثقيفية في المجتمع، محاولاً الربط بين سياسته الفنية على المسرح وحركة العمال (البروليتاريا) وتحركاتهم.
لكن القصص تشير إلى أن “المسرح، منذ نشأته الأولى عند الإغريق، حمل في طياته كثيراً من القضايا السياسية، وهذا ما نلاحظه في مسرحية أنتيغوني لسوفوكليس، وهي تمثل صراع الدين مع السلطة”، مبيّنة أن الأعمال استمرت تحمل في طياتها كثيراً من المقولات السياسية، لكن كمنهج وتيار لم يظهرا بصورة محددة إلّا عند بيسكاتور وبريخت. وهذا، وفق أستاذة المسرح في الجامعة الأردنية والمخرجة المسرحية، “مرتبط بنجاح الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، والتي كان لها مناصرون في كل أنحاء العالم، وتحديداً في ألمانيا”.
يُذكر أن القَصَصْ تطرقت في مسرحياتها إلى قضايا سياسية متعددة، وركّزت، بصورة محدَّدة، على القضية الفلسطينية. وتتحدّث عن أعمالها، فتقول إنها تباينت عمن سبقوها عبر تركيزها على الشكل الجمالي والمضمون المباشر أحياناً، والمحرض أحياناً أخرى، فقدّمت عن حصار غزة مسرحيةَ “أبيض وأسود”، وقدّمت، في العمل نفسه، عن التضليل الإعلامي، عملاً باسم “إلّا انت القدس”، تناولت فيه تسريب النطف من السجون الإسرائيلية، وانتصرت للمقاومة.
كما قدمت عملاً آخر عن القدس في عام 2009، بعنوان “بلا عنوان”. وهي تمثّل أيضاً سخريةً بالوعود المتكررة للزعماء العرب بشأن الرغبة في تحريرها، ولم يفعلوا شيئاً سوى الكلام والشعارات.
رانية الجعبري