إصفهان.. مدينة الإيثار والمقاومة من الفنّ إلى الملحمة

خاص الوفاق : اعتبر آية الله العظمى السيد علي الخامنئي محافظة إصفهان بأنها نموذجًا ساطعًا من تاريخ المقاومة.

2024-11-30

عبير شمص

 

عندما سافرت إلى هذه المحافظة ومدينة إصفهان كصحفية لبنانية لتغطية مؤتمر 24 ألف شهيد في محافظة إصفهان، كنت أعلم أن هذه الرحلة ستكون تجربة جديدة ستكشف لي أبعادًا جديدة عن الإيثار والملحمة في هذه البقعة من إمبراطورية المقاومة، لكنني لم أكن أعلم أنني لن أستطيع بسهولة الانفصال عن الشهداء  الذين هم الهوية الحقيقية للمقاومة والثبات. هذا المؤتمر لا يذكر فقط التاريخ المجيد لإصفهان، بل يُعبر أيضًا عن رابط عميق بين المقاومة وشعب هذه الأرض. أقدم تقريري عن هذا المؤتمر من إصفهان، تلك المدينة المعروفة بالفن والتاريخ والملحمة، والتي أضحت مرةً أخرى مسرحًا لجمال الإيثار والمقاومة. 

مؤتمر يتجاوز كونه حدثًا محليًا

 

استمر مؤتمر 24 ألف شهيد لمحافظة إصفهان لمدة ثلاث أيام من 26 إلى 28 نوفمبر/ تشرين الثاني، وشارك حوالي 10 آلاف شخص في فعالياته. إصفهان، التي تمثل 6.5% من سكان البلاد أثناء الحرب المفروضة في تلك الفترة، قدّمت عُشر شهداء البلاد، ومن بين 230 ألف شهيد في البلاد، ينتمي 24 ألف شهيد إلى هذه المحافظة. تحتوي محافظة إصفهان على 1332 عائلة قدّمت شهيدين، و96 عائلة قدّمت ثلاثة شهداء في سبيل الثورة الإسلامية، وتنتمي العائلة الوحيدة في حرب الدفاع المقدس والتي قدمت ثمانية شهداء إلى  هذه المحافظة.

 

اختُتم المؤتمر مساء الخميس، بمشاركة أهالي الشهداء والمسؤولين المدنيين والعسكريين، وخُصصت الليلة الأخيرة لكلمات اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري الإيراني، في مصلى الإمام الخميني (قدس). تضمنت الفعالية عروضًا فنية ومدائح للسيدة الزهراء (ع) والإمام الحسين (ع)، إلى جانب استعراض كلمات آية الله العظمى السيد علي الخامنئي خلال لقائه بالمسؤولين عن تنظيم المؤتمر في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024.

 

الشهداء رموز ثقافة التضحية

 

إحدى أبرز لحظات  المؤتمر كان عرض كلمة قائد الثورة الإسلامية. ففي هذا اللقاء، وصف آية الله العظمى السيد علي الخامنئي إصفهان بأنها رائدة في جميع علامات الحضارة مثل العِلم والصناعة والفن والعمارة وتربية العلماء والشجاعة، وأكد على أن إصفهان تُظهر أن تيار التدين والتشريع متداخل مع تيار العلم والصناعة والثقافة والحضارة، وأن هذين التيارين لا يتعارضان مع بعضهما البعض. كما اعتبر محافظة إصفهان بأنها نموذجًا ساطعًا من تاريخ المقاومة، وذّكر أهل هذه الأرض كـ”رمز للتضحية والولاء”.

 

وأكد على دور الشهداء كحاملي راية ثقافة الإيثار، قائلاً: “إحياء ذكرى الشهداء هو جهاد في سبيل الله.” واعتبر استمرار روح الجهاد والشهادة وتجسدها في شخصيات مختلفة من أجيال متنوعة دليلاً على ترسيخ روح التضحية واستمرار سلسلة الشهادة المضيئة في إصفهان، وأشار إلى أن الجيل الشاب اليوم بحاجة إلى التعرف على هذه الهوية البارزة لإصفهان. وقد أوصى القائمين على تنظيم مؤتمر شهداء إصفهان بإنتاج أعمال ثقافية وفنية ذات جودة وتأثير، وأيضًا بتقييم مدى تأثير هذه الإنتاجات على جمهورهم، مشيرًا إلى قدرة الألعاب الإلكترونية كإحدى أدوات نقل الرسالة، إذ يمكن للوحدات والأقسام العسكرية أن تركز على إنتاج أحداث فترة الدفاع المقدس على شكل ألعاب إلكترونية، تمامًا كما تستخدم بعض الدول هذه الطريقة لإيصال شعور القوة والقدرة العسكرية إلى عقول الشباب والمراهقين.

 

إصفهان والمقاومة.. علاقة لاتنفصم

 

في كلمته بالمؤتمر،قال اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري الإيراني، إن “إصفهان تُعرف بتاريخها وأحداثها الكبرى وملحمتها الخالدة في تاريخ الإسلام وإيران، وكذلك بأدبائها وعلمائها وفنانيها”. وأضاف: “إصفهان في العالم كالألماس اللامع، مصدر للإشعاع وملهم، ولكن ما منح هذه الأرض الشرف العظيم واللامتناهي هو وجود الشهداء كنجوم ساطعة”.

 

وواصل حديثه بالقول: “بلا شك، إصفهان هي أرض النجوم، وهذه المحافظة، مع أكثر من 24000 شهيد، هي مجرة مليئة بالنجوم المتلألئة التي تُظهر الطريق المستقيم للباحثين عن درب الجهاد والشهادة”.
وأشار إلى أن “اسم فرق إصفهان في فترة الدفاع المقدس شكل كابوساً للأعداء، وكان يرعبهم”.

 

واعتبر اللواء سلامي إصفهان جزءاً لا يتجزأ من جغرافيا المقاومة، وذكر أن القادة الشهداء من إصفهان كانوا قادة في الخط الأمامي لمكافحة العدو الصهيوني، وقال: “قلب إصفهان متصل بقلب بيروت ولبنان، وكان القادة الكبار للمقاومة أبناءً بارين من هذه المحافظة؛ الشهيد حجازي كان شخصية كاملة ونموذجاً للتقوى، والشهيد زاهدي كان مليئاً بالإخلاص والتضحية، وهو الذي استشهد في الهجوم الذي شنه العدو الصهيوني على سفارتنا في سوريا، وارتقى إلى لقاء الله (عزوجل). والشهيد نيلفروشان أيضاً من إصفهان، وقد استلهم منكم، واستشهد بجانب سيد المقاومة خلال الهجوم العدواني الذي شنه الكيان الغاصب المدعوم من أمريكا على الضاحية الجنوبية لبيروت “.

 

أرقام مذهلة عن تضحيات  إصفهان

 

عندما تذهب لزيارة أفضل عباد الله في مقابر شهداء “گلستان إصفهان”، تشعر أنك غارق في بحر من النور، حتى ترى بأم عينيك قبور الشهداء الطاهرة الذين ذهبوا للقتال في ريعان شبابهم استجابة لنداء نائب إمام زمانهم وللدفاع عن الإسلام والمسلمين.. ربما أغرب إحساس قد تشعر به في مقابر الشهداء هو هنا في مقابر “گلستان إصفهان”، إذ يجذبك مغناطيس هؤلاء الشهداء ويجعل الخروج من هذا البحر النوراني أمرًا صعبًا عليك. أكثر من 8000 شهيد يرقدون في هذه المقابر، والتي تُعتبر بمثابة “متحف الإيثار والشهادة”.

 

كذلك تحتل إصفهان، التي قدمت أكثر من 24000 شهيد، مكانةً فريدة في تاريخ الثورة الإسلامية. وتضم هذه المحافظة على 970 جريحاً بنسبة تزيد عن 70%، و96 أسرة لديها ثلاثة شهداء، وأسرة واحدة تضم سبعة شهداء في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر أصفهان في مجال التعليم نموذجًا لتربية الجيل الثوري بوجود 7 مدارس تضم أكثر من 100 شهيد. كما تتميز بفعالياتها وإنتاجاتها الثقافية الخاصة بالشهادة والشهداء، إذ أصدرت أكثر من 146 عنوان كتاب و85 فيلمًا وثائقيًا عن شهداء هذه المحافظة، وهذا  يدل على اهتمام الناس والمسؤولين بإحياء ذكرى الشهداء.

 

قادة إصفهان رموزٌ للمقاومة الإسلامية

 

إلى جانب أسماء شهداء عظماء مثل حسين خرازي، أحمد كاظمي، مصطفى رداني‌بور، إبراهيم همت، وشهبازي الذين كانوا قادة كبار في ثماني سنوات من الحرب المفروضة من قبل نظام صدام البائد على إيران، تضيء اليوم أسماء قادة جدد مثل الشهيد حجازي، الشهيد زاهدي، والشهيد نیلفروشان في تاريخ المقاومة الإسلامية. هؤلاء الأبطال لم يلعبوا دوراً حيوياً فقط في الجبهات الداخلية، بل أيضاً في مناطق حساسة مثل لبنان وسوريا. ولقد استطاع الشهيد حجازي، من خلال قيادته الذكية، تعزيز أسس المقاومة في لبنان. كما أصبح الشهيدان زاهدي ونیلفروشان، عبر تضحياتهم في سبيل قضية فلسطين، نموذجاً لا مثيل له للأجيال القادمة.

 

تشييع تاريخي لـ 370 شهيد

 

أحد الأحداث الفريدة في تاريخ إيران هو ملحمة التاسع والعشرون من شهر محرم سنة 1403 هـ، أي 16 نوفمبر / تشرين الثاني 1982، حيث شيع أهل إصفهان في يوم واحد 370 شهيدًا من شهداء عملية محرم، وقد عُرف هذا اليوم بأنه يوم ملحمة وإيثار إصفهان، وفي هذا اليوم وتأكيداً على قيم الثورة والشهادة والشجاعة توجهت أعداد كبيرة من شباب المدينة للقتال في الخطوط الأمامية في الجبهة، فقد سجل أكثر من ألف شخص من أهل هذه المدينة  أسمائهم للتوجه إلى الجبهة. وتُعتبر عملية محرم إنجازًا كبيرًا للجمهورية الإسلامية في فترة الدفاع المقدس، إذ تم تحرير 700 كيلومتر مربع ، وقد أدت إلى وضع استراتيجية جديدة لعمليات واسعة في المنطقة الجنوبية، وساهمت في  تحديد مصير الحرب.

 

إيثار شعب إصفهان

 

في يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1982، شيع 370 شهيدًا من ميدان الإمام الخميني (قدس) إلى مقبرة شهداء إصفهان، دفن بعض الشهداء ولكن بقي العديد منهم في ميدان الإمام (قدس) على بعد حوالي سبعة كيلومترات، فقدّم أهل هذه المدينة 16 منزلًا بجانب مقبرة المدينة كهدية، ليتم هدمها وإضافة مساحتها إلى مساحة المقبرة.

 

يُعد هذا الحدث رمز إيثار شعب إصفهان وتأكيداً على ولائهم لمبادئ الثورة الإسلامية. عندها وصف الإمام الخميني (قدس) بعد أيام في رسالة ما جرى بأنها علامة إيمان وبصيرة شعب إصفهان، وكتب: “أين في العالم يمكنك أن تجد مكانًا مثل محافظة إصفهان؟ قبل أيام قليلة، تم تشييع حوالي ثلاثمائة وسبعين شخصًا فقط في مدينة إصفهان. ومع ذلك، فإن هؤلاء الشهداء وأسرهم المكلومة لا يزالون يواصلون خدمتهم للإسلام. اليوم، فهم شعبنا أنه لا يمكن دفع الإسلام قدماً دون تضحية، ويعلمون أننا جميعًا يجب أن نضحي من أجل الإسلام…”

 

كما أن آية الله العظمى السيد علي الخامنئي، رئيس الجمهورية في تلك الفترة، اعتبر في حضوره المفاجئ في ذلك التشييع الفريد، أن هذه الواقعة تٌجسد عظمة روح الاستشهاد لدى شعب هذه المدينة.

 

رسالة إصفهان إلى  العالم:تحرير القدس الشريف

 

شهد هذا المؤتمر حضوراً حاشداً من الأهالي الذين رددوا عدة مرات شعارات “الموت لأمريكا” و “الموت لإسرائيل” و “لبيك يا حسين” أو “حسين حسين شعارنا – الشهادة شرفنا”.  يحمل إقامة هذا الحدث الكبير رسائل واضحة من قبل الشعب الإيراني المؤمن بالشهادة وأهالي إصفهان إلى شعوب العالم بأن تحرير القدس الشريف هو هدف مشترك لكل أحرار العالم. وأن أمريكا والكيان الغاصب هما سبب كل المصائب في منطقتنا، وبأن شعب إصفهان، كان وسيبىقى في الصفوف الأمامية للمقاومة.

 

المصدر: الوفاق/ خاص