شواهد من رحلة العودة إلى الوطن

خاص الوفاق : عند المعبر، يظهر مشهد أشد تأثيرًا. وجوه الجنود مرهقة، لكنها مشبعة بالعزيمة. أحدهم يحمل طعامًا في يده ويمدّه بابتسامة إلى أحد الركاب قائلاً: «تفضلوا، هذا العراق يهديكم، وأنتم اهل العزيمة والشرف».

2024-12-01

د. بتول عرندس

 

القافلة تتحرك ببطء، كأنها تحمل على متنها أثقالًا من الذكريات والمشاعر، تسير على طريق طويل يبدأ من كربلاء، مهد الإمام الحسين(ع)، مرورًا بالشام، أرض السيدة زينب(س)، وصولًا إلى الضاحية الجنوبية، قلب المقاومة. كل ميل يقطعه الركب يحمل معه عبق التاريخ وحكايا الصبر، وكل محطة تقف فيها الحافلات تشهد مشهدًا جديدًا من مشاهد العشق الحسيني الذي يربط الزائرين بأرضهم وبماضيهم وحاضرهم.

 

لحظة الوداع عند أبواب كربلاء تحمل مشهدًا لا يمكن نسيانه. رجال العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية، يقفون على الجانبين كأنهم سدّ من الهيبة، يرفعون أيديهم بالدعاء مودّعين. على وجههم تعبيرًا يجمع بين التعب والرضا، كأنه يقول: «خدمتكم أمانة، ووداعكم غصة». أصوات الزائرين ترد التحايا بالدعاء، بينما تتردد في الأرجاء كلمات مثل: «أمانة لا تنسونا من الدعاء عند السيدة زينب(ع)» والسيدة خولة(س).

 

تنطلق القافلة مع غروب الشمس، حيث السماء بلونها الكربلائي تُسدل ستارًا على المدينة المقدسة، تاركة في القلوب أثرًا عميقًا. في الطريق إلى معبر القائم، تصطف فرق الحشد الشعبي عند النقاط الحدودية، متأهبة كالعادة. أكواب الشاي العراقي توزع على العابرين مع خبز التنور الطازج، ورائحة الطعام تعبق في الأرجاء. هذا الشاي ليس كأي شاي؛ فهو ممزوج برائحة الأرض العراقية وصبر رجالها.

 

عند المعبر، يظهر مشهد أشد تأثيرًا. وجوه الجنود مرهقة، لكنها مشبعة بالعزيمة. أحدهم يحمل طعامًا في يده ويمدّه بابتسامة إلى أحد الركاب قائلاً: «تفضلوا، هذا العراق يهديكم، وأنتم اهل العزيمة والشرف».

 

آخرون ينشغلون بمساعدة السائقين، يرفعون الأمتعة الثقيلة كأنها لا تثقل ظهورهم.

 

على طريق الشام.. زينب تروي حكاية الصبر

 

عند دخول القافلة أراضي الشام، يخيم الصمت على الركاب، لا شيء يعلو سوى صوت المناجاة، وأحيانًا نشيج مكبوت يتسلل من إحدى الزوايا. هذا الطريق، طريق السيدة زينب(س)، يحمل في طياته قصصًا لا يمكن نسيانها. النساء في الحافلات تمسكن المصاحف أو السبحة، وأعينهن تغرق في الدموع. أحد الرجال ينظر من النافذة ويتمتم: «هنا سارت السيدة زينب(ع)… هنا نطقت بصوتها الذي كسر جبروت الظالمين».

 

عند أحد الاستراحات القريبة من مقام السيدة زينب(ع)، توقف الركب. رجال ونساء يترجلون، يتجهون نحو القبلة وهم يحملون في قلوبهم سلامًا خاصًا: «يا زينب، عذرًا أننا نعود إلى أوطاننا بينما تركتِ وطنكِ دفاعًا عن الحق. ما زالت كربلاء تُنير الطريق، وما زال صبركِ يروي النفوس العطشى للحرية».

 

في الضاحية الجنوبية.. الرسالة تصل

 

حين تقترب الحافلات من مشارف الضاحية الجنوبية، تغيرت ملامح الركاب. من النوافذ، ينظرون إلى المشاهد التي تطل عليهم.. مبانٍ متضررة من القصف، ركامٌ لا يزال شاهدًا على جرائم الاحتلال والعدوان. هنا كانت الضاحية شاهدة على معارك عاشورائية. هنا كان صوت الإمام الحسين(ع) يُصدح في المسيرات.

 

طفل صغير يشير بإصبعه إلى بناية مدمرة ويسأل: «أما كانت هذه مدرسة؟» يجيبه والده بصوت متحشرج: «نعم، لكنها اليوم مدرسة للصبر». تنساب دموع الأم الجالسة قربهما، وكأنها تسترجع كل ما حدث في هذه الشوارع، شوارع كانت تعج بالحياة، بأعلام الإمام الحسين(ع)، وبرايات المقاومة التي لم تنكسر.

 

حين دخلت الحافلات الضاحية، كان بانتظارها حشدٌ كبير من الأهل والأصدقاء، يحملون صور الشهداء وأعلام المقاومة. «يا زوار كربلاء، أهلاً بكم في ضاحية الصمود. كربلاء أرسلت سلامها إلينا عبر خطاكم!» هتافات النساء تختلط بدموع الرجال، وأصوات الأطفال تتردد كأنها صدى لكلمات الإمام الحسين(ع): «هيهات منا الذلة».

 

رجال الضاحية يقفون أمام الركام، يرفعون رؤوسهم عالياً ويقولون: «كربلاء وصلت إلى هنا. رسالتها باقية، ولن تموت». إحدى السيدات تمسك حفنة من تراب كربلاء، تبعثرها فوق أرض الضاحية وهي تتمتم: «يا حسين، ترابك هذا هو عهدنا لك، بأننا لن نترك دربك مهما عظمت التحديات».

 

رسائل كربلاء التي لا تموت

 

في طريق العودة إلى القرى الجنوبية، كانت الحافلات تزدان بصور الشهداء الذين ضحوا ليبقى هذا الطريق آمنًا. على وجوه الركاب، خليطٌ من الدموع والفخر، وبين أصابعهم تسابيح تردد اسم الإمام الحسين(ع) والسيدة زينب(س). الأطفال ينامون على أكتاف أمهاتهم، بينما آباؤهم ينظرون من النوافذ إلى وطنٍ صنعه الشهداء بدمائهم.

 

كربلاء لم تكن مجرد محطة؛ كانت رسالة. رسالة حملها العائدون من الشام إلى الضاحية، ومن الضاحية إلى كل قرية جنوبية، بأن الإمام الحسين(ع) حي في كل خطوة، وأن السيدة زينب(س) ما زالت تعلمنا الصبر. إنها رحلة ليست عادية، بل مسيرة تجدد العهد مع كل قطرة دم، وكل ركام مبنى، وكل صورة شهيد. إنها مسيرة لا تنتهي إلا بنصرٍ عظيم، يقوده عشقٌ حسيني لا ينكسر.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص