الإعلامي والكاتب الفلسطيني عثمان أحمد بدر للوفاق:

حفظ الرواية الفلسطينية وإثرائها واجب المثقف المشتبك

خاص الوفاق : المثقف الذي نعول عليه في صراعنا مع عدونا، وفي إعادة بناء نظامنا السياسي، هو "المثقف المشتبك" الذي يمارس دوره مهما كانت الظروف

2024-12-01

عبير شمص

 

شكلت الثقافة، وما زالت، أحد ميادين وأشكال الصراع مع المشروع الصهيوني. فالرواية الصهيونية حول الوطن القومي لليهود وحقهم في فلسطين، بنيت على تزوير التاريخ، وتشويه الحقائق، وإبراز الصهاينة كشعب له ثقافته الجامعة، في مقابل إنكارهم وجود مقومات للفلسطينيين كشعب، وإظهارهم كبشر، بلا هوية، وبلا ثقافة، ومقطوعين عن الحضارة والتاريخ. من هنا كان للمثقفين الفلسطينيين، وبالاستناد إلى الحجج المعرفية والعلمية، دورهم الهام في مواجهة السردية الصهيونية، وتفنيد مزاعمها. وللخروج من حالة الصدمة واليأس والإحباط، التي أصابت الفلسطينيين بعد قيام الكيان المؤقت، ومن أجل معالجة تداعيات النكبة عليهم وعلى هويتهم، كان لا بد للمثقف الفلسطيني أن يأخذ دوره، في نشر الوعي، وشحن الهمم، وزرع الأمل وروح المقاومة، في صفوف الفلسطينيين، والمساهمة في إعادة بناء الهوية الوطنية والقومية للفلسطينيين، وتعزيزها والدفاع عنها. وبالفعل كان المثقف الفلسطيني حاضراً للدفاع عن هويته وتراثه وانتمائه في كل فلسطين وفي الشتات، سنتحدث في هذه المقابلة مع الإعلامي والكاتب الفلسطيني عثمان أحمد بدر عن واقع المشهد الثقافي الفلسطيني في لبنان ومساهمته في حفظ الثقافة الفلسطينية الأصيلة ونقلها للأجيال الفلسطينية الموجودة في بلاد الشتات، وفيما يلي نص الحوار:

 

بداية نهضة ثقافية فلسطينية
يبدأ الإعلامي الفلسطيني بدر الحديث عن الواقع الفلسطيني في لبنان منذ بدء توافد اللاجئين الفلسطينين إلى لبنان، فيقول:” من المفيد العودة إلى التاريخ قليلاً لنتعرف على كيفية تقدم الحالة الثقافية والأحداث التي مرت بها، خضع الوضع الثقافي الفلسطيني في لبنان لتقلبات السياسة والواقع العام للوجود الفلسطيني في لبنان، وكانت بدايات العمل الثقافي الأوّلي والبسيط في  منتصف الخمسينيات من القرن الماضي والذي بدأ مع انطلاقة حركة القوميين العرب والهيئة العربية العليا بقيادة مفتي بلاد الشام الحاج محمد أمين الحسيني ففي مرحلة الـ54 بأت بعض المخيمات الفلسطينية تشهد تنظيم بعض الأنشطة الثقافية في بعض المناسبات الوطنية والتي كانت ممنوعة في المدارس متل ذكرى وعد بلفور او تقسيم فلسطين لأنها تعتبر أنشطة وطنية ولا يمكن تنظيمها في الأونروا لأنها تعتمد في تمويلها على المجتمع الدولي فكانت ولا زالت لغايه الآن تحظر أي أنشطة وطنية في المدارس، ومن ثم نظمت بعض الأمسيات الشعرية لشعراء محليين، وهذا شكل خطوة لتعميم الثقافة الفلسطينية في المخيمات الفلسطينية”.
ويتابع الكاتب بدر قائلاً: مع تطور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي للاجئين الفلسطينيين، تغير الواقع إلى الأفضل، فعندما ازدهر الواقع المعيشي والاجتماعي في المخيمات نشأت في العديد منها الأندية الثقافية والفرق الفنية والمسرحية والمكتبات ومؤسسات ثقافية كبرى كمؤسسة غسان كنفاني وماجد أبو شرار والمركز الثقافي الفلسطيني وبدأت الفرق الفنية بتقديم العروض المسرحية والفنون الشعبية في المخيمات واستقبال شعراء كبار مثل عاطف أبو بكر ومحمود درويش، وتعد هذه مرحلة نهضة الثقافة الفلسطينية في المخيمات.
توأمة بين المثقف اللبناني والفلسطيني
يشير الكاتب بدر إلى حصول تطور لافت في الحالة والأنشطة الثقافية الفلسطينة في المخيمات في لبنان بعد دعم الفصائل الفلسطينية  لها، فنشأت مؤسسات ثقافية وفرق فنية ومسارح تستضيف عروضاً مسرحية من خارج المخيمات، وأصبحنا نرى احتفالات فلسطينية كبرى في خارج المخيمات، وتوطدت العلاقة بين المثقف الفلسطيني واللبناني وخاصةً أولئك الذين دافعوا عن فلسطين وقضاياها وثقافتها، هذا الانفتاح على المجتمع اللبناني غيّر نظرة الأخير عن الفلسطيني الذي كان يُتهم بأنه قد باع أرضه وجاء ليحتل أرض غيره، وعبر هذه التوأمة بين المثقف اللبناني والفلسطيني تعرّف اللبناني على الفلسطيني المتعلم والمثقف وصاحب الحق”.
ويؤكد الإعلامي بدر بأن لا بد من إبراز الدور الهام للإتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في صياغة وتثبيت الواقع الثقافي الفلسطيني على المستوى اللبناني وعلى مستوى المخيمات وخاصةً أن بعض من تبوأ رئاسة الإتحاد العام منذ تأسيسه عام 1966 هم من عمالقة الشعراء والمثقفين والكتاب الفلسطينيين، منهم الشاعر عبد الكريم كرمي صاحب أشهر قصيدة فلسطينية “يا فلسطين كلما حاربت من أجلك أحببتك أكثر، وهؤلاء كان لهم دورٌ بارز في تعميم الثقافة الفلسطينية في المخيمات الفلسطينية بالإضافة للعديد من الشعراء والكتاب والصحفيين الفلسطينيين، فهؤلاء كان لهم بصمات واضحة في تعميم وتعميق الثقافة الفلسطينية في المخيمات وعلى المستوى اللبناني بشكلٍ عام وفي تمتين العلاقات مع الإخوة اللبنانيين والعرب، وعقدت ندوات كبرى استضافت مثقفين عرب كبار ونظمت مناسبات ثقافية كبرى وأمسيات شعرية وحتى من خارج لبنان والبلاد العربية، فقد استضافت في إحدى المرات أحد أكبر كتاب أمريكا اللاتينية “شفيق حنظل”، بالمجمل شهدت هذه الفترة واقعا ثقافيا فلسطينيا ممتازا في المخيمات وبقي هكذا حتى عام 1983.
الاجتياح الصهيوني دمر الثقافة  
يعتبر الإعلامي بدر أن أسوأ ظروف مرت على الفلسطيني بشكلٍ خاص والمثقف بشكل عام هو الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 ووصول جيش الإحتلال إلى العاصمة بيروت وبعد حصار دام 83 يوماً وقّعت منظمة التحرير اتفاقاً مع الجانب الأمريكي للخروج  من بيروت، انعكس هذا على الواقع الثقافي الفلسطيني لا سيما أنه بسبب الحرب وتردي الوضع الاقتصادي تراجع الهم الثقافي والاهتمام به، وانعكست التطورات السياسية والانشقاقات في المجتمع السياسي الفلسطيني على الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين وعلى المشهد الثقافي الفلسطيني بشكلٍ عام.
ويشير الإعلامي بدر أنه لابد من لفت النظر إلى مؤسسة كبرى كانت موجودة في لبنان وكان لها أثر كبير في نشر الثقافة الفلسطينية وهي مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت وكان أحد أكبر أهدافها حفظ التراث الثقافي الفلسطيني والنتاج الفكري الفلسطيني للفلسطينيين ومواكبة تطورات القضية الفلسطينية توثيقاً وبحثاً، ولكن بسبب الحرب وخروج الفصائل الفلسطينية من بيروت تراجع دورها، وتعرض أرشيف هذه المؤسسة للإستيلاء من قبل العصابات التابعة الاحتلال ربما أحرقته وأتلفته لكي لا يكون شاهداً على أعمالها الإجرامية في تلك الفترة .
المثقف الذيلي
يشير الإعلامي بدر أنه بعد توقيع إتفاقية الاستسلام مع العدو الصهيوني في أوسلو ظهر ما يمكن أن نسميه “المثقف الذيلي” الذي كان ينادي وينشر ثقافة الاستسلام وفق الأجندة السياسية السائدة حينها في مقابل المثقف الحقيقي الذي أغلقت الأبواب في وجهه، وشرعت لذلك المطبل للاستسلام وبالتالي أصبحنا نرى على الشاشات أشباه مثقفين لا يملكون الكفاءات وثقافة حقيقية بل ثقافه مزيفة وأصبحوا يتقدمون الصفوف في كل المناسبات بينما المثقفون الحقيقيون تم إهمالهم، وأصبحت الثقافة سلعة ووسيلة للإرتزاق، وكان التمويل من الخارج لتعميم هذه الثقافة الذيلية وضرب ثقافة المقاومة وجعل الثقافة الفلسطينية هامشية وسطحية تمهيداً للقضاء عليها، إذا أردت القضاء على شعب فإقضي أولاً على ثقافته وعندما يصبح السطحيون والانتهازيون وأولئك الذين يبيعون المواقف في المقدمة فكما يقولون على الدنيا السلام ويكون الأعداء قد استطاعوا تحقيق غايتهم”.
ويلفت الإعلامي بدر إلى أن الساحة اللبنانية على الصعيد الفلسطيني خسرت عشرات لا بل مئات المثقفين والشعراء والأدباء والقادة الثوريين بسسب الهجرة من بداية الاجتياح الصهيوني إلى العام 1993م ، والذين لم يهاجر البعض منهم فقط بالجسد بل هجروا فلسطين وقضيتها وهناك عشرات الكتاب والمثقفين الفلسطينيين موجودين في أوروبا ولا يمارسون أي دور ثقافي وهذا كله شكّل خسارة للحالة الثقافية الفلسطينية في لبنان.
حماية الثقافة بمبادرات فردية
يؤكد الإعلامي بدر بأنه على اعتبار أن الثقافة هي آخر القلاع المدافعة عن الثقافة الفلسطينية، فإذا سقطت سقطنا كان لابد من مبادرات فردية يقوم بها البعض على مستوى المخيمات الفلسطينية فتحرك البعض من المثقفين الفلسطينيين الحقيقيين وبمبادرة فردية وبالعمل الجاد والدؤوب للحفاظ على الهوية الثقافية الفلسطينية، فأنشأوا العديد من المؤسسات الثقافية المتواضعة والمعتمدة على التمزيل الذاتي”.
ويلفت الإعلامي بدر على أن بعض التجارب الفردية في الخمس عشرة سنة الماضية استطاعت أن تحافظ على الهوية الثقافية الفلسطينية وأن تعيد الاعتبار للحالة الثقافية في المخيمات، مما شجع المزيد من المثقفين والكتاب أصحاب الفكر المقاوم لتفعيل نشاطهم الثقافي مما حرك العجلة الثقافية في المخيمات وأعاد رونق الثقافة للتألق والحضور مجدداً، وبدأ قطار الثقافة من جديد للسير على المسار الصحيح، وبدأ الكتّاب الفلسطينيين بتأليف الكتب في مختلف المجالات ونشرها وتنظيم العشرات من المعارض للفنون التشكيلية  والمشاركة في المعارض اللبنانية مثل معرض كتاب طرابلس الدولي السنوي والمشاركة في المسابقات والأنشطة الثقافية في جميع أنحاء لبنان، وبدأ النشاط الثقافي الفلسطيني في لبنان تزداد وتيرته عبر هذه المبادرات الفردية والجماعية من شعراء وكتّاب وبدأت الحياة الثقافية في المخيمات تعود إلى تألقها السابق”.
ويردف الإعلامي بدر أنه في هذه السنوات الخمس عشر الأخيرة تأسست العديد من الجمعيات والروابط الفلسطينية ولكن بالعموم ما زال هناك إخفاقات كبيرة في المشهد الثقافي الفلسطيني على مستوى لبنان ولكن هناك محاولات إنقاذية جادة من أجل الحفاظ على الهوية الثقافيه للفلسطينيين في لبنان ومن بديهيات القول ان الواقع الفلسطيني في لبنان هو جزء من الواقع اللبناني وبالتالي كل ما يحصل في لبنان يتأثر به المخيم الفلسطيني على كل المستويات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والثقافية، لأنه هناك ارتباط عضوي ما بين الفلسطيني في لبنان واللبناني وهناك تعاون جاد وكبير بين المؤسسات الثقافية الفلسطينية واللبنانية تتجسد في أعمال وأنشطة ثقافية مشتركة عديدة.
المثقف مبدع رغم كل الظروف
يؤكد الإعلامي بدر بأن الحياة  السياسية أثرت بالسلب على الحالة الثقافية الفلسطينية في فلسطين وفي دول الشتات لكن، هل ينتظر المثقف الفلسطيني إعادة بناء نظامه السياسي، كي يمارس دوره في الصراع؟  بالطبع لا ، فمع الوضع السياسي الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني تملك الوطنية الفلسطينية حيوية متميزة، ويعود الفضل في ذلك إلى دور الحقل الثقافي في الحفاظ على الرواية الفلسطينية وإثرائها ، ويمكن الإضافة والقول إن عملية إعادة البناء التي أشرنا لها، ربما تتطلب مبادرة المثقفين إليها، وربما، لا يمكن إنجازها، بمعزل عنهم. إذن، فالمثقف الذي نتحدث عنه، ونعول عليه، في صراعنا مع عدونا، وفي إعادة بناء نظامنا السياسي، هو ما يطلق عليه “المثقف المشتبك” الذي يمارس دوره مهما كانت الظروف، ومهما بلغ من الإحباط، فتكوينه الفكري والنفسي، وربما قدره، يدفعه إلى ذلك. إنه المثقف المنحاز لشعبه، ولغيره من الشعوب، في معارك الحرية والتحرر والعدالة والمساواة. هو المثقف النقدي، الذي ينطق بالحق والحقيقة، وإذ يستعصي عليه ذلك، لسبب أو لآخر، لا يلجأ، كما هو حال بعض المثقفين، إلى التزييف، أو التبرير بالقول، إنهم مثقفون لا شأن لهم بالسياسة، فهذا القول هو بحد ذاته موقف سياسي، وتدخل بالسياسة. إذن، تدخل المثقف بالسياسة، وهو واجب، واقع بطبيعة الحال، سواء أراد المثقف ذلك 
ووعاه أم لا. المهم أن لا يكون تدخل المثقف لصالح السلطة والسلطان، بل لصالح شعبه ومقاومته”. 
المصدر: الوفاق/ خاص