يقعُ التناقض أحيانا بين ما يرغبُ في فعله الإنسان ويتمناه بوصفه يكفل سلامه الداخلي، وما تفرضه عليه طبيعته من نزوع للعنف، بوصف هذه الطبيعة ملتقى الأضداد. ترويضُ الطبيعة الإنسانية بالتربية الروحية والأخلاقية والجمالية يكفل احتواءَ هذا التناقض إلى حد كبير، إذ يخفض فاعلية عناصر الشرّ الكامنة في النفس الإنسانية، ويبعث ويغذي عناصرَ الخير والمحبة والتراحم الكامنة فيها.
التربيةُ عمليةٌ ديناميكية وليست ميكانيكية، إنها كالمعادلات الكيمياوية التي تختلفُ نتائجها تبعًا لاختلاف كيفيات عناصرها وكمياتها، فقد تكون ثمرتُها الاستعباد، كما هو نمط تربية أكثر المؤسسات في مجتمعنا الوارثة لتقاليد الاستبداد وثقافته، وقد تكون ثمرتُها الحرية، وهذه قليلًا ما نعثر عليها في مجتمعنا.
التربيةُ إن كانت ترتكز على معطيات العلوم والمعارف الإنسانية والقيمِ الأخلاقية والروحية والجمالية فإنها تكون تربيةً خلّاقة، تثري الشخصية وتنتج الرأسمالَ البشري النوعي، الذي هو أثمن رأسمال في العالم. وحين تغيب في التربية القيمُ والمعايير والاستراتيجيات والأساليب العلمية، وتجهل روحَ عصرها، فإنها تصير كجرعة السمّ التي تقوّض الحياةَ العقلية، وتمرض الحياةَ الروحية، وتطفئ الضميرَ الأخلاقي، وتُفسِد الذائقةَ الجمالية.
قوةُ الانسانِ بقوة المعاني الروحية والأخلاقية والجمالية المشبَعة فيها حياته. تكمنُ قوةُ الإنسانِ بغزارة منابعِ إلهامِ المعنى لحياتِه وعمقِ شعورِه فيها، وسعيه المتواصل لإفاضة المعنى على حياة إنسان آخر. الحبُّ من أعذبِ منابعِ المعنى، إنْ أحسَنّا إدارتَه بما يُصَيّرهُ مُلهِمًا للضوءِ والجمالِ والسلام الباطني.
الحُبّ يعتمد على حكمتنا في إدارته وتوظيفه. إن أحسنا توظيفه والإفادة منه أسعد حياتنا، وإن أسأنا توظيفه والإفادة منه فتك بحياتنا. يشعر الإنسان السويّ بالحب كأنّه سياحةٌ في مدنِ الضوء.
الحُبّ الأخلاقي أسمى مراتب الأمن الروحي والعاطفي والنفسي. الضميرُ الأخلاقي سياجُ المحبة وكلّ العلاقات الإنسانية الأصيلة. الضميرُ الأخلاقي يدعو الإنسان لاحترام ذاته والصدق معها أولاً، والحرص على نقاء صورته وصفائها أمام ذاته، قبل حرصه على صفاء صورته أمام الناس، الوضوحُ والصراحة مع الذات تطهّرُ الحُبّ والعلاقاتِ الإنسانية من الرياءِ والمراوغةِ والنفاقِ. الحُبّ كما يعيشه الإنسانُ الأخلاقي يتجلّى فيه الصدقُ مع الذات، والأمان والحمايةُ والرعايةُ والتهذيبُ واللطفُ في التعاملِ مع الآخر. الحُبّ ثقةٌ ومسؤوليةٌ، والمسؤوليةُ أعلى مراتبِ الالتزام، من ثمرات الحُبّ المسؤوليةُ الأخلاقيةُ تجاه مَن نحبّ، الحُبّ بلا شعورٍ بمسؤوليةٍ أخلاقيةٍ حيال مَن نحبّ كذبة. الحُبّ يعكسُ أعذبَ درجاتِ اهتمامِ الإنسانِ بالإنسانِ الذي يشعرُ أنَّه الأنا بصورتِها الأجملِ.
العمل الذي يبدأ بالحُبّ والشغف يتفوق مقارنة بأمثاله. الحُبّ الأصيل يعتقنا من الانزواء والعزلة في حياتنا، أن نحبّ إنسانًا جديرًا بالحُبّ يصيّرنا مثلما يصيّره إنسانًا جديدًا. للحُبّ طاقة خلّاقة يكتسب فيها كلُّ شيء يتوالد منه تفوقًا وفرادة. مادام الإنسان يُحبّ فهو يحلم بالأجمل، ومادام يحلم بالأجمل فعقله يصبح خلّاقًا، وقلبه لن يغادر الشباب.
الصلات بين إنسان وآخر بحُبّ تجعل العلاقات الحياتية المتنوعة يسودها الودادُ والوئام والسلام، التفكير بحُبّ يفتح آفاقًا مضيئة في الذهن، الكتابة بحُبّ تكتسي فيها الكلماتُ كيمياءَ مؤثرة، إنجاز أي منجز بحُبّ يجعله متفردًا. لولا الحُبّ ما تمكّن الكتّابُ وأنا منهم من الكتابة عن الحُبّ وغيره، بل أستطيع القول: ما يُكتَب بعناية وإبهار هو ثمرة للشغف والحُبّ. عندما ينضب الشغفُ بالأعمال والأشخاص والأفكار يُصاب الإنسانُ بالسأم والإحباط، الذي يقود إلى اليأس، وقد ينتهي إلى فقدان كلّ معنى، وأخيرًا الاكتئاب الحاد.
ما دُمْتَ تُلهِم المحبة لإنسان فأنت سعيد، حضورك في ضمير كلِّ إنسان يتجلى ببصمتك المضيئة في قلب هذا الإنسان. الحُبّ مُلهِم لتغيير الذات، بلا إكراهٍ أو قهر. الحُبّ مُلهِم لما أنجزته الإنسانيةُ من إبداعات واختراعات واكتشافات في العلوم والفنون والآداب المختلفة. كان وما زال الحُبّ والشغفُ يمدّان الإنسانَ بالصبرِ الطويل، والطاقةِ الضرورية لإنجاز الأحلام الكبيرة. إيقاظُ الحُبّ وتغذيةُ منابعِ المحبة ضرورةٌ تربويةٌ وأخلاقيةٌ وروحية وجمالية. الحُبّ أساس بناءِ العائلة السعيدة، وعيشِ المجتمع في فضاء التنوع والاختلاف، وترسيخِ أُسُسِ السِّلم الأهلي، وتعزيزِ بنية المجتمع والدولة.
مَن يُلهِم الحُبّ لغيرة يعيش بسلام، مَن يُلهِمون الحُبّ لغيرهم قليلون وربما نادرون. أكثر الناس غير قادرين على العطاء العاطفي والروحي، لذلك ينبغي أن ينتقي الإنسان أولئك القادرين على منح حياته أعذب معانيها. حُبّ الإنسان شاقٌّ على الإنسان، الحُبّ الأصيل عطاء، وليس كلُّ إنسان قادرًا على العطاء. الشُحّ ليس استثناءً في حياة الإنسان، استعدادُ الإنسان للشُحّ أشدُّ من استعداده للعطاء، استعدادُ الإنسان للندم ومحبة الغير بعد رحيلهم للعالَم الآخر أشدُّ من استعداده للامتنان والتقدير والاعتراف بمزايا غيره ومحبته وتقديره في حياته.
طالما سمعنا ثناءً على موتى من أشخاصٍ كانوا لا يعترفون لهم بفضلٍ في حياتهم، مهما كانت آثارهم، وما قدموه من أجلِ إسعادِ الإنسان، لكن بعد رحيلهم من هذا العالم، وحضورِ أعمالِهم الكريمةِ في المجتمع والاحتفاء بها، يعودُ هؤلاء الذين لم يعترفوا بهم أو كانوا يهجونهم للاعترافِ بما قدموه من آثار مهمة.
أسوأ أنواعِ الشُحّ العجزُ عن إكرام الإنسان بكلمةِ محبّةٍ صادقة، وتجاهلُ الاعتراف بمواهبه ومنجزاته. كلمةُ المحبّة الصادقة بصمةُ القلوب المضيئة، تصدر مثلُ هذه الكلمة عن الضمير الأخلاقي اليقظ، الذي يرى إنسانية الإنسان قبل أن يرى دينه ومعتقده وإثنيته وثقافته وموطنه.
نحن لا نشكّل أهميّةً لغيرِنا إلا بالقدرِ الذي نمنحُهم ما يحتاجونَه من معنىً لحياتِهم، مكانتُك عند الآخرين يتحكم بها شعورُهم بالحاجة إليك، وقدرتُك على تلبيتها بلطف وأريحية، الأمان والحُبّ والتقدير والامتنان من أهم ما يحتاجه كلُّ إنسان.
لا يمكن أن يمنحَ الإنسانُ الحُبّ لغيره إن كان كارهًا لنفسه، ولا يمكن أن يرحمَ الإنسانُ غيرَه إن كان عنيفًا مع نفسه. بعضُ الناس عاجزٌ عن إنتاج الحُبّ، على الرغم من حاجته الشديدة إليه، ربما يكون ذلك الإنسانُ عاطفيًّا بلا حدود، ربما يمتلكُ حساسيةً فائقةً يفتقر إليها كثيرٌ من الناس، غير أن عجزَه عن إنتاج الحُبّ يعود لعقدٍ نفسيةٍ وعاهاتٍ تربوية، وجروح طفولة غاطسة في البنية اللاشعورية في أعماقه، تفرض عليه حياةً خانقة كئيبة، لا يمكنه الخلاصُ منها أو تخفيفُ وطأتها إلا بمراجعة مصحّ نفساني.
أحيانًا لا يعجز الإنسانُ عن الحُبّ فقط، بل يعجز عن الخلاص من كراهية الناس وامتلاء القلب بالغلّ والحقد عليهم. تجده يتعذّب بكُرْه كلِّ الناس، ولو فرضنا أنه في يوم ما لا يجد مَنْ يكرهه فإنه يعود إلى ذاته ليكرهها.
مَن يحتقر ذاته يحتقره الآخرون، ولا يحظى باحترام أحد. ومَن يُكرم ذاته يُكرمه الآخرون، ويفرض احترامه على الجميع. أما من يركن للخنوع والضِّعَة والهوان، ويغرق في الشعور بالدونية والاحتقار، فإنه يُصبح إنسانًا رخيصًا مبتذلًا، يمكن لأي شخص أن يستعبده. مثل هذا الإنسان يكون مستعدًّا لفعل أي شيء، من دون تحكيم ضميره أو الالتزام بالقيم أو القانون. وقد يُسخِّر ذاته لأبشع الأفعال، ويُصبح أداةً بيد الآخرين تُستغّل لأداء أقذر المهمات.
أ. د. عبد الجبار الرفاعي