صفاء مقلد مجازة لبنانية في اللغة العربية وآدابها
منذ بداية معركة طوفان الأقصى، في فلسطين الحبيبة، انطلقت من لبنان جبهة المساندة والنصرة، لأهل غزة. وبطبيعة الحال انطلقت معها من بيوتنا قوافل المجاهدين، لتقوم بشرف الخدمة، على الحدود المتاخمة لفلسطين المحتلة. تزامن ذلك مع نزوح معظم الأهالي، من ديارهم، ليستقروا في القرى النائية والآمنة، البعيدة عن خط المواجهات، والتي بمعظمها احتضنت في ترابها العديد من الشهداء، وعوائلهم.
وبدأت تتوالى الضربات، ففي ١٧ أيلول حصلت جريمة البيجر واللاسلكي، التي خلّفت وراءها مئات الجرحى ممن فقدوا البصر، والكفوف، وبعض الشهداء. ترافق مع اغتيال قيادات الصف الأول، والنخب.
اكثر من اسبوعين يفصلانا عن أعنف مشهد وأقسى حرب مرّت على لبنان، وصار لزامًا أن ينزح الجميع، إما نزولا نحو العاصمة بيروت، أو شمالًا نحو طرابلس، ومناطق الجبل. وبالتالي لا يخفى على أحدنا مرارة النزوح، وصعوبته، وكسرة الخاطر التي تعتري قلوب الأهل الصابرة .
ليأتي تباعًا الحدث المزلزل، وفاجعة الأمة، فقد وليّنا وقائدنا وسيد النصر سماحة السيد حسن نصر الله، ويقينًا كله خير..
وصارت قوافل الشهداء ترتقي، وبتنا نسمع خبر الأخوة يرتقون معًا، والأباء يسبقون الأبناء، كل واحد في جبهة، لم تبخل البيوت بالجود، ولم تقف الأم بوجه ولدها، ولم تصد الزوجة زوجها عن الجهاد، ولم تضعف الأخت أمام أخيها، بالرغم من الأخبار المتواترة عن المواجهات وضراوتها، ووقوع بعض المجاهدين في الأسر.
وقد مر العديد من المشاهدات التي تبين صدقية أهلنا الشرفاء الذين راهن العدو عليهم، في اضعاف جبهة المقاومة ولكن هيهات هيهات:
حتى أننا سمعنا بأمهات رفضن عودة أبنائهن بعد خبر شهادة السيد نصر الله، وطلبن منهم القتال حتى النصر، لحفظ إرث السيد ووصاياه .
أمام كل النوائب التي حلّت بقلوب أمتنا -والمجال لا يتسع لذكرها – سؤال يطرح نفسه؛ من أين أتت صلابة الأمهات وثباتهن؟
كيف تقف الأم بكل قوة، بعد شهيدها الأول، تنعى الابن الثاني، والصهر، والزوج؟
وتقف الابنة بكل افتخار لتزف والدها شهيدًا عزيزًا، والأصعب منه لم نقم لهم المآتم، ولم نحضر جنائزهم، حتى نظرة الوداع حُرمنا منها.
حقيقة، نقف اجلالًا وشموخًا أمام هذه الصورة التي هزت العالم، وغيّرت معادلة الحرب مع سواعد المقاومين. وحري بنا أن نخبر أجيالنا أسرار النصر.
الروحية التي تميز بها شبابنا، أصلها من زرع الأمهات، وتستوجب أن نفرد لها بحثًا خاصًا.
أمّا ثبات نسائنا وقوتهن، محل حديثنا، فأصله ومنبته:
من الإيمان الثابت بالله والاعتقاد الراسخ بالقضاء المبرم من السماء، والرضا والتسليم لأمره، وأن رب الخير لا يأتي منه إلا الخير.
وهذا الثبات على الايمان، والاستعداد للبذل مقابل إحياء الدين والنهج، فمرده إلى؛ كل الحكاية، وسر بقاء الإسلام؛ واقعة كربلاء، المدرسة الحقيقية لكل النفوس.
من مجالس أبي عبدالله(ع) وشعار هيهات منا الذلة
من وقفة زينب(س) يوم العاشر، وقد رأت ما رأت؛كل الأهل أجسادا مهشمة وأوصالًا مقطعة، وبكل جسارة رفعت يديها نحو السماء وقالت: “اللهم تقبل منا هذا القربان”.
من صبرها وصلابتها في محضر الطاغية لما صدحت بشعار الرضا الذي زلزل النفوس: “ما رأيت إلا جميلًا” .
من حنوها على النساء، وعطفها على الجرحى، ودعمها للرجال .
من بأس الأصحاب الذين ما تركوا إمامهم وحيدًا.
من المفاهيم والعقائد التي ثبّتها فينا شهيدنا الاسمى السيد حسن نصرالله، طيلة السنوات التي رافقنا، ولعل شهادته في بداية الحرب خير مصداق للتضحية، والجود بالنفس، وهذا أيضًا ما هوّن على القلوب، حتى صارت الواحدة منا تجد مصابها هيّنًا أمام فقده الشريف.
من أرضنا التي ارتوت بدماء الشهداء، وزُرعت أجسادهم بين ترابها أوتادًا بكل شبر .
من السنديان العتيق، العصي على الانكسار والانحناء.
من السماء..من الغيم.. من الصخر.. من الحجر ..
من الله ….
هذه قوتنا يا أبنائي، بها انتصرنا، بها يحلو مرّ الفقد مع العزة والكرامة.