في هذه الأيام، يلملم اللبنانيون جراحهم وينفضون غبار العدوان عن بيوتهم وأرزاقهم وقلوبهم.. منهم من أصابته الغارات في بيته ورزقه وأحبّته بشكل مباشر، ومنهم من بقي خارج دائرة النار.. لكن عموماً، أثبت الجميع أنّ حملات التحريض المموّلة أميركيًا ضدّ بيئة المقاومة وعلى مدى سنوات لم تأتِ بفائدة، بدليل احتضان جميع المكوّنات اللبنانية للنازحين من أهل المقاومة طوال فترة الحرب. وبذلك، لم يعد لخطاب الانعزال والتقسيم أيّ آذان صاغية أو أفق مرئيّ، وإن توهّم طرف سياسي بأن تغيّر الحال في سورية قد يكون عاملًا مؤثّراً في استنهاض مشروع التقسيم والفدرلة في لبنان، أو حتى في العودة إلى التهديد والتلويح بتهديد السلم الأهليّ. بكلام آخر، كلّ خطاب انعزالي تقسيميّ يستقوي بشكل خاص بما يجري في سورية كي يستضعف المقاومة وأهلها، أو يحاول فرض شروطه ومعاييره عليها تِبعًا لأجنداته ومصالحه، هو خطاب واهم ولا يمتّ إلى الواقع بصلة، بل ويتنافى حتى مع الشعارات التي أبدع بعض الأفرقاء في صياغتها طوال سنين، حول أهمية بناء دولة القانون والمؤسسات ورفض الاستقواء بأي جهة خارجية ضدّ طرف “محليّ”.
لا شكّ بأنّ ما جرى في سورية يشبه زلزالًا، سيكون له تردّدات على جميع المكوّنات السياسية في لبنان والمنطقة، ولكن ليس في مدى الخيارات الإستراتيجية لهذه المكوّنات، بمعنى أنّه لم يغيّر في حقيقة التوازنات والخيارات الكبرى التي تخصّ كلّ طرف، ولا في الوزن التمثيلي لها، فلا أهل المقاومة في لبنان سيتخلّون عنها ولا المعادون لها سيفهمون جدواها ويغيّرون مواقفهم المعادية لها جهارًا. وهنا تقع المفارقة العجيبة، فيما نسمع خطاب المقاومة المنتصرة الداعي إلى الحوار ولملمة الجراح وبناء الدولة القوية التي تستطيع حماية شعبها من أيّ عدوان، نسمع أيضًا تلميحات تقسيمية وإشارات إلغائية واضحة من المعادين لها، والذين يدّعون عادة أنّ رأس أولوياتهم دولة القانون والمؤسسات التي تصون وتحمي سيادة لبنان وشعبه. والكلام يعني، أن أصحاب هذه الإشارات والتلميحات يريدون “دولة” مفصّلة على قياس رؤاهم ومعاييرهم، تخضع فيها “المقاومة” كقوّة سياسية لشروطهم ورغباتهم، وإلّا فهم بصدد “الاستقواء” بالمتغيّرات الإقليمية لفرض كلّ ذلك عليها! وهنا، ينتقل المفهوم من دولة القانون والمؤسسات الحافظة للسيادة الوطنية والتي تشكّل المقاومة قوّتها الأكثر حضورًا وفعالية، إلى دولة رغبات وأهواء طرف بالكاد يمتلك صفة تمثيلية في قائمة مكوّنات البلد.
ببساطة وسلاسة، يبدي بعض الأفرقاء الداخليين شهيّة واضحة لالتهام حقّ اللبنانيين المناصرين للمقاومة بالمشاركة في القرار السياسي. يُسقط عنهم وزنهم التمثيلي في الحكومة والبرلمان ويحاول الالتفاف على حقوقهم الدستورية والقانونية المتمثّلة بحق دعم ترشيح أيّ شخصية لا تتماهى مع الهوى الأميركي لرئاسة الجمهورية: وأكثر من ذلك يطالبون حزب الله بشكل خاص بالخضوع لشروطهم تلك وإلّا!
هذه الـ”وإلّا” التي وردت بصيغ متعدّدة ولا سيّما بعد سقوط النظام السوري تشي بقصور ذهني فاضح في عقول قائليها، فهي بما تحمل من تهديد ووعيد وتلميح بمحاولة فرض ما يريدون بالقوّة بحال عدم استجابة الحزب لرغباتهم، تشي بغرق في وهم يعشش في هذه العقول وهو أنّ قوّة حزب الله تنبع من أيّ مكان في الخارج، وخاصة في سورية. وإن كان عذرهم في ظنّهم هذا أنّهم اعتادوا أن يكونوا أدوات تنفّذ أجندات خارجية، فباتوا يتوهمون أنّ الجميع مثلهم، فلا عذر لهم في عجزهم عن فهم حقيقة أنّ المقاومة خيار سياسي وأخلاقيّ وإنسانيّ، لا يمكن أن يُلقّن، وبالتالي لا يمكن أن تكون نواة قوّته نظامًا سياسيًا سقط أو حتى دولة تدعمه وتسانده.
ما نسمعه اليوم من خطابات ومواقف تحمل في طيّاتها وبين سطورها تهديدات أو شروط موجّهة إلى حزب الله ــ الذي لم يبدّل ولن يبدّل خطابه الوطني الداعي إلى الوحدة والتناغم في حفظ البلد وأهله ــ تفضح قائليها وتُسقط شعاراتهم التي بنوا عليها طيلة سنوات مسارهم السياسي: من الذي يستقوي بالخارج وعلا صوته التقسيميّ والتحريضيّ بعد سقوط النظام في سورية؟ من الذي يحاول استثمار المتغيرات السوريّة في الداخل اللبناني؟ من الذي يهدّد ويتوعّد مستندًا إلى ما يتوهمّه من ضعف قد يكون أصاب بنية حزب الله أو محور المقاومة ككلّ؟ من الذي يريد استبعاد وعزل وتغريب مكوّن لبناني وازن عن الحياة السياسية والقرارات السيادية؟ الإجابات تكمن في وجوه من علت أصواتهم الانعزالية المهدّدة للسلم الأهلي من جهة، ولفكرة الدولة برمّتها من جهة أخرى. معذورون في وهمهم هذا، ربّما، فمن شبّ على شيء شاب عليه، ولكن لا تخفى الشمس بالأصوات الظلامية.
ليلى عماشا