يلدا أطول ليلة في السنة، هي ليلة تاريخية ومفرحة للإيرانيين وهي رمز العلاقة بين الثقافة والفن والتاريخ الإيراني، ولها عادات وتقاليد خاصة وتُعتبر فرصة لتجمع العائلات الإيرانية وصلة الرحم، والفرح وإحياء التقاليد القديمة. في هذه المقالة، سنستعرض العادات والتقاليد، والأبعاد الثقافية والفنية، وتاريخ ليلة يلدا:
ليلة يلدا متجذرة في الثقافة الإيرانية
يلدا، كأطول ليلة في السنة، كانت لها مكانة خاصة بين العائلات منذ العصور القديمة وحتى الآن، ومع تسجيلها العالمي باعتبارها العنصر التاسع عشر من التراث الثقافي غير المادي لإيران في الاجتماع السابع عشر للجنة حماية التراث الثقافي غير المادي التابعة لليونسكو في ملف مشترك بين إيران وأفغانستان في عام 2022م، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى التعريف بهذه الثقافة القديمة والقيّمة.
للعادات والتقاليد في كل مجتمع جذور في ثقافته، فهي تعرض جوانب من المعتقدات القيمة والقديمة للأمم. ووفقًا للباحثين، فإن تاريخ الشعائر القديمة ليلدا، يعود إلى سبعة آلاف عام، وكانت احتفالات يلدا واحدة من أقدم وأثمن التعاليم التقليدية في معتقدات الإيرانيين القدماء.
هذا وتعود كلمة “يلدا” في اللغة السريانية إلى معنى “الميلاد”، وتعتبر رمزًا لميلاد الشمس من جديد في هذه الليلة. ووفقًا للوثائق التاريخية، يمثل هذا الاحتفال رمزًا لانتصار النور على الظلام وبدء الأيام الأطول. في هذه الليلة الطويلة، تغلب الشمس، رمز الإشراق والخير، على ظلام الليل وتبدأ الأيام في الإطالة تدريجيًا. تمتلك ليلة يلدا جذورًا في الطقوس القديمة في إيران، وتم التعرف عليها رسميًا كاحتفال وطني منذ العهد الأخميني. في هذه الليلة، يستذكر الإيرانيون عبر قراءة الأشعار والقصص القديمة كيف كان أجدادهم يحتفلون بهذه الليلة ويعتبرونها كرمز للأمل.
ويمتد جذور يلدا في التاريخ الإيراني القديم، فقد كان الناس في العصور القديمة، وخاصةً التي كانت تشكل الزراعة أساس حياتهم، يتفاعلون مع مرور الفصول والتغيرات الطبيعية على مدار السنة، وعبر التجربة ومرور الزمن، تمكنوا من تنظيم أعمالهم وأنشطتهم مع حركة الشمس وتغير الفصول وطول وقصر النهار والليل واتجاه وحركة النجوم، ورأوا أن في بعض الفصول تكون الأيام طويلة جداً، وبالتالي يستطيعون الاستفادة فيها أكثر من ضوء الشمس. نشأت القناعة بأن النور والإضاءة وأشعة الشمس هي رموز للخير وتتنازع مع ظلام الليل، واكتشفوا أن أقصر الأيام هو آخر يوم من الخريف وأول ليلة من الشتاء، وبعد ذلك تبدأ الأيام تدريجياً في زيادة الوقت نهاراً وتقصر الليالي. من هنا، أطلقوا عليها اسم ليلة ميلاد الشمس واعتبروها بداية السنة.
هذه الليلة هي نهاية فصل الخريف وبداية البرودة وتحول لون الأرض من الأصفر إلى الأبيض، وكان الإيرانيون القدماء يعتقدون أنه في صباح يوم يلدا، مع شروق الشمس، ستزداد أيام السنة طولاً وسيتزايد سطوع النور الإلهي، لذلك كانوا يقيمون احتفالاً كبيراً.
یلدا في الأدب الفارسي
يمتد تاريخ ليلة يلدا لحوالي 2500 عام، وهناك عدد من الأشعار المرتبطة بهذه الليلة في أعمال شعراء مثل سنائي، خاقاني، وبروين اعتصامي. ويظهر التاريخ أساسًا أن كل قوم ومنطقة كانت لها مراسم خاصة بها، ولكن ما بقي كعادة مشتركة هو تجمع العائلات في ليلة يلدا، قراءة أشعار حافظ، وتناول فواكه مثل الرمان والبطيخ، إذ أن اللون الأحمر لهذه الفواكه هو رمز للشمس والنور الذي يتعارض مع ظلام الليل.
وتعتبر الفلسفة الأساسية ليلدا هي مقاومة الظلام وتعزيز الروابط الأسرية، وهي فرصة لتجمع العائلات ودعم بعضها البعض، وهذا الدعم هو رمز للجهد من أجل التغلب على الليل والاحتفال بشروق النور، لذا لاحتفال يلدا دورٌ مهم في تعزيز العلاقات الأسرية والحفاظ على القيم الثقافية.
احتفال تتوارثه الأجيال
یلدا هو احتفال قديم وإرث ثقافي غير ملموس تم نقله من جيلٍ إلى جيل بشكل شفهي وليس بطرق رسمية، وقد تشكلت بناءً عليه عادات وتقاليد. في هذه الليلة الباردة، يجتمع الإيرانيون ودول أخرى تشترك معهم في الثقافة نفسها بناءً على تقليد قديم لتسجيل لحظات حلوة ولا تُنسى بجانب أفراد الأسرة. يعتبر البعض يلدَا فرصة ثمينة لتجمع الأقارب والأحباب، بينما يرى آخرون أنها اجتماع لتقوية الروابط، والسلام والمصالحة، وإزالة الضغائن وتعزيز الروابط العاطفية.
عادات وتقاليد ليلة يلدا
أحد أبرز ميزات ليلة يلدا هو التجمعات العائلية، إذ تتجمع العائلات في هذه الليلة معًا، لذا تلعب دورًا مهمًا في تعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية. يُعد هذا الاحتفال فرصة للعائلات للتجمع، وتبادل تجارب الحياة، والاستمتاع بلحظات حلوة معًا.
على مدار السنوات الطويلة، خضعت مراسم ليلة يلدا لبعض التغيرات، لكن في القرن الأخير يتم الاحتفال بهذه الليلة بإقامة طقوس خاصة. وأهم هذه الطقوس إعداد مائدة يلدا التي تعني الوفرة والنعمة وعادة ما تشمل الفواكه الشتوية مثل الرمان، والبطيخ، واليقطين، يُعتبر الرمان رمزًا للحياة والخصوبة، بينما يُمثل البطيخ واليقطين إشعاع الشمس والدفء. ومن أكثر الطقوس جذباً في ليلة يلدا هي قراءة الأشعار والقصص القديمة، فتُقرأ أشعار وقصص “شاهنامه” للحكيم “فردوسي” التي تتناول أبطال إيران مثل رستم وسهراب وسياوش، أو أشعاره المتعلقة بأمير المؤمنين الإمام علي (ع)؛ كما أن قراءة فال حافظ واحدة من العادات المحبوبة في ليلة يلدا، حيث يتفكر الناس في المستقبل الجيد الذي ينتظرهم عبر قراءة أشعاره.
ومن الطقوس المهمة في هذه الليلة إشعال الشموع كرمز للضوء والدفء في هذه الليلة. تجتمع العائلات حولها ويتشاركون لحظات حلوة مع بعضهم البعض، وبالطبع عند وقوع أزمات إنسانية وحروب في العالم، يضيء الشعب الإيراني شمعة تكريماً للمظلومين ويدعون لهم بالصبر والسلامة، وهو ما شهدناه العام الماضي تعبيراً عن التعاطف مع أهل غزة.
الأبعاد الثقافية والفنية لليلة يلدا
ليلة يلدا ليست مجرد احتفال عائلي فقط، بل هي احتفال ثقافي يعرض القيم الإيرانية. وهي تعد كواحدة من رموز الهوية الإيرانية، وذات تأثير عميق على حفظ ونقل الثقافة والفن الإيرانيين على مر التاريخ.
وقد كانت ليلة يلدا مصدر إلهام للعديد من الفنانين على مرّ التاريخ. من اللوحات الفنية الجميلة التي تصور هذه الليلة إلى قصائد الشعراء الإيرانيين العظام مثل حافظ وسعدي الذين تناولوا ليلة يلدا في أشعارهم. كما أعاد الفنانون المعاصرون تجسيدها في أعمالهم، وساهموا في استمرارية وتوسيع هذه الثقافة الغنية عبر خلق أعمال جديدة ومبتكرة مثل الأفلام والعروض التلفزيونية والموسيقى والمسرح. وتشمل هذه الليلة العديد من الأبعاد الثقافية والفنية على مستوى المجتمع منها عرض الفنون اليدوية مثل الرسم، والخط، يستغل العديد من الفنانين المحليين هذه الفرصة لعرض أعمالهم على العائلات، وتترافق هذه الليلة أيضًا مع الموسيقى الإيرانية الأصيلة أو الأناشيد المحلية والفولكلورية.
ختاماً ليلة يلدا ليست مجرد احتفال ثقافي، بل تُظهر الرابط العميق بين الأسر والمجتمع الإيراني-الإسلامي وحب الحياة. تذكرنا هذه الليلة أنه حتى في أبرد ليالي السنة، يمكننا بجعل الحب والصداقة والتعاطف، أن نجلب الدفء والنور إلى حياتنا. ومن ثم، يمكن أن تُعرف كتراث ثقافي وفني إيراني على المستوى العالمي، وتعتبر رمزًا للحياة والأمل في قلب الشتاء لشعوب مختلفة.