الحلقة الأولى – نشأة حزب الله واهدافه
يجد الناظر في منطقة «غرب آسيا»، المصطلح الذي يطلقه القائد سماحة السيد الإمام علي الخامنئي(حفظه الله)، على عدّة دول تقع جغرافيًّا في غرب القارّة الآسيوية، وتتمحور حولها السياسة الدولية والإقليمية، فيما تُطلق عليها الولايات المتّحدة الأميركية والدول الغربية مصطلح «الشرق الأوسط»، على المنطقة التي تضمّ الدول العربية والإسلامية، وكلا المصطلحَيْن يتشابهان في المضمون السياسي الدولي، لكن لكلٍّ منهما هدفًا واضحًا وجليًّا، فسماحة القائد الإمام السيد علي الخامنئي(حفظه الله) ينطلق من مرتكز إسلامي تحرّري لاستعادة الأمَّتَيْن العربية والإسلامية حقوقهما والاستفادة من خيراتهما وطرد الاستعمار، فيما الولايات المتحدة تنطلق من النقيض تمامًا، تؤازرها بعض الدول الأوروبية من أجل الاحتلال والاستعمار ونهب الثروات.
لذلك شهدت هذه المنطقة، على اختلاف تسمياتها، لبّ الصراع العالمي، لا سيّما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ودخلت دائرة الاهتمام المباشر بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية والاتحاد السوفياتي، كلٌّ منهم يحاول الاستيلاء على منطقة تخضع لاحتلاله، من أجل تمرير سياسته وكسب المزيد من الثروات ونهب الخيرات، واتخاذها مسرحًا للاقتتال بأبناء الدول نفسها.
يكتب التاريخ السياسي المعاصر، عن الحرب الباردة التي استعرت عدة عقود، ما بين الولايات المتحدة وحلفائها، تحت مسمّى «حلف الناتو»، من جهة، وما بين الاتحاد السوفياتي وحلفائه، تحت مسمّى «حلف وارسو»، من جهة أخرى، فيما دول غرب آسيا وشمال أفريقيا، وبعض الدول الإسلامية الأخرى، إما تائهة ومجهولة الارتكاز، وإما مرتمية في حضن أحد المحاور، غير أنها بأغلبها ارتمت في الحضن الأميركي، وتنفّذ مشاريعه، بل تموّلها من عوائد النفط المستخرج بالدرجة الأولى.
في خضمّ الحرب الباردة، حدث أمر طارئ، لم يكن يتوقّعه كل العالم، شرقيُّه وغربيّه، ولم يكن يعطيه بالًا ودراسة واهتمامًا، حتى بلغ أشدّه وهزّ أركان العروش، وبات محطّ أنظار كل العالم من جديد، فيما بات يشكّل خطرًا داهمًا على الوجود الصهيوني برمّته في المنطقة، انطلاقًا من أرض لبنان، مرورًا بكسر أيدي العملاء، وصولًا إلى قيام محور مقاوم يواجه القوات الأميركية مباشرة، بعد أن جعل الكيان الصهيوني عاجزًا عن تحقيق حلمه بدولة «إسرائيل الكبرى»، أو حتى بحلم دولة «إسرائيل العظمى».
سارت الأحداث بشكل مطّرد، وتسارعت في الميدان العسكري، على نحو بات في لبنان قوة عسكرية تواجه العدوّ الصهيوني وتكبّده خسائر مادية وبشرية، جعلت منه قوة مهزومة، على عكس ما كان يصوّره للعالمَيْن العربي والإسلامي، طيلة ثمانية عقود زمنية.
لقد نشأ «حزب الله»، في حزيران 1982، في لحظة هي من أقسى اللحظات عُنفًا ودمارًا وقتلًا وتشريدًا، لحظة الاجتياح الصهیوني للبنان استكمالًا للخطة الممنهجة في تأسيس «دولة إسرائيل الكبرى». فقد أوحت القيادة الصهيونية بوجود محاولة اغتيال سفيرها في لندن «شلومو أرجوف»، واتّهام منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة «أبو نضال»، فكان اجتياحها تحت شعار إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان.
في هذه اللحظات، تأسّس «حزب الله» من اللقاء الذي جمع العديد من العلماء، الذين انتموا إلى حركات وجمعيّات ولجان دينيّة وهيئات علمائيّة، فتوحّدوا تحت قرار الإمام الخميني(رض) بتشكيل نواة مقاومة لمواجهة الاحتلال الصهیوني، وعدم انتظار المفاوضات السياسية. وكان المرتكز الأول، هو الاعتماد على الشباب اللبناني دون سواه، مع إمكانية الاستعانة ببعض الخبراء العسكريّين للتدريب والتوجيه، إلا أن الميدان يبقى للمقاتل اللبناني الذي عليه أن يتحمّل كامل المسؤوليّة الجهاديّة، في مَهمّة التحرير والمقاومة. عندها كانت ولادة «حزب الله» ودمج مختلف القوى الإسلامية الثورية والفكرية التي توافقت مع مبدأ ولاية الفقيه العادل، فانطلق شعار المرحلة بأن حزب الله هو حركة جهادية تمارس العمل السياسي، على قاعدة «إيمان جهاد شهادة».
انطلق حزب الله بعمليّاته العسكرية ضد جيش العدو الصهيوني في منطقة «خلدة» عند مشارف بيروت، من خلال بضع شبّان تميّزوا بروحيّة عالية، ونسق مواجهات مختلف عمّا كانت عليه العمليّات العسكرية السابقة، رغم قلة العتاد والعديد، فأظهرت المواجهة حقيقة بنيان العدو الصهيوني وأبانت مكامن الضعف، فتشكّلت حينها مقاومة من مختلف الأحزاب والتنظيمات اللبنانية، كانت مواجهات خلدة نقطة الانطلاق.
خلقت نوعية المواجهات وتقنيّاتها وعمليّاتها ومسارها التصاعدي قلقًا صهیونیا كبيرًا لم تشهده طوال حروبها ضد الدول العربية بجيوشها مجتمعة، وكان من أبرز تلك العمليّات في بدايات الاجتياح، عملية الشهيد أحمد قصير الاستشهادية، يوم 11/11/1982، أي بعد عدة أشهر منه.
وعلى امتداد العقد الأول من التأسيس والانطلاق، برزت عمليّات نوعية متميّزة عن غيرها من العمليّات العسكرية، من حيث الهجوم على المواقع العسكرية المحصّنة واقتحامها، تلك العمليّات التي لم يشهدها العدو سابقًا، وترافقت مع التصوير في سياق الحرب الإعلامية لكسر الهيبة الصهيونية، وقد نجحت ذلك إلى حدٍّ بعيد، فأثّرت على البنية النفسية للجنود الصهاينة ومجتمعهم.
ومنذ انطلاقته، أعلن حزب الله استراتيجيته الواضحة التي لا لبس فيها، بنظرته إلى الكيان الصهيوني، على أنه «وجود غير شرعي»، ولا يمكن الاعتراف به، حتى لو اعترفت كل حكومات العالم به، فهذه ثابتة أساسية في أسس المنطلقات التي انطلق منها الحزب، فهو يجاهر ويفاخر بها، وقد حدد مجموعة أهداف مرحلية، من خلال العمل على الساحة اللبنانية، لخصّها أمينه العام، السيد حسن نصر الله، بثلاثة أهداف:
– استنزاف العدو وإضعافه.
– تحرير الأرض اللبنانية المحتلّة.
– استنهاض الأمة.
شهدت المواقع العسكرية الصهيونية في جنوب لبنان عمليّان نوعيّة، أسفرت عن تغيير في النظرة العسكرية لكلا الطرفين، فباتت قيادة حزب الله، تدرك يومًا بعد يوم هشاشة الجندي الصهيوني، وارتكازه على العنصر المادّي، وفاق ما صوّره الله تعالى في الآية الكريمة، بأنهم «لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ“، وكذلك في التوصيف النفسي لهم «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ»، وذلك على نقيض ما ارتكز عليه المجاهدون في عملهم الجهادي الذي عبّر عنه القائد الجهادي الحاج عماد مغنية بقوله «يللي بتقاتل فينا هي الروح»، بالإشارة إلى التمسّك بالعقيدة والدين. فيما نظرة العدو الصهيوني للميدان الجنوبي بدت تتمظهر من خلال الإخفاقات والغرق في المستنقع اللبناني، وحرب الاستنزاف، وغيرها من العبارات والمصطلحات التي بيّنت حقيقة ضعفه.
لذلك يمكن الحديث عن هذه المرحلة، وهي مرحلة الانطلاق، بأنها مرحلة الوجود والتأسيس في الساحة اللبنانية، على أن يتبعها مراحل متعدّدة، تحمل في كل مرحلة عنوانًا يناسب واقعها.
بعد مرور عقد كامل على الانطلاقة، وجد العدو الصهيوني أنه بحاجة إلى عملية عسكرية كبيرة، لعلّها تنقذه من الغرق والانهيار وتهشيم صورته، فلجأ إلى اغتيال الأمين العام السيد عباس الموسوي(رض)، في 16 شباط 1992، لردّ الاعتبار ومحاولة ضعضعة البنيان التنظيمي لحزب الله، لكنه فشل، وارتدّت العملية سلبًا عليه، بعدما انتُخب السيد حسن نصر الله أمينًا عامًّا في نفس ليلة تشييع السيد الموسوي(رض)، وما حقّقه السيد نصر الله من نجاحات في الميدان العسكري والعمليّاتي.
بعد فشل سياسة الاغتيالات، لجأ العدوّ الصهيوني إلى عمل عسكري مباشر وبحجم أكبر ليطال مساحة واسعة من الأراضي اللبنانية، من خلال الاجتياح الجوّي وقصف مختلف المناطق، تحت ما أسماه عملية «تصفية الحساب» أو «حرب الأيام السبعة» حسب التسمية اللبنانية، وذلك في شهر تموز 1993. وهذا ما سيكون في الحلقة الثانية من البحث.