مفيد سرحال
منذ الاستقلال ونحن في محنة وامتحان نتأرجح خلال كل تلك العقود المنصرمة على حبل اللا استقرار. وإن مررنا كلبنانيين في فترات نقاهة واسترخاء سياسي اقتصادي وهمي مصطنع، غير أننا بالمقابل عانينا الكثير من صداع المنازعات والخضات والتصدعات والشروخ السياسية والاجتماعية التي طالما غلفت بشعارات سياسية من هنا وهناك تركزت في غالبيتها على آليات اشتغال الدولة ومؤسساتها وتركيبة النظام السياسي والخلل البنيوي في ادارة الحكم تحت عنوان فضفاض حمل اسم الاصلاحات على وقع قصائد الثناء والهجاء للنظام القائم الموسوم بالطائفية والتحاصص وغياب المواطنة.
وتمحورت الآراء والأفكار حول أنه من باب العبث واللهو الحديث عن اصلاح اداري غير مرتبط باصلاح سياسي. والاصلاح السياسي أيضًا اذا لم ينطلق من مبدأ تغيير النظام الطائفي إلى نظام مدني فإنه حكمًا وبقوّة الواقع يكرس حال الرعايا في جماعات طائفية على قاعدة أن هذه الجماعات كيانات اجتماعية قائمة بذاتها ولذاتها الفئوية.
نظام الجماعات هذا أسس لنظام الفساد كترجمة عملية للتحاصص الطائفي والمذهبي، ولم تقتصر المسألة على المنافع الشخصية بل تجاوزتها الى اقتسام الدولة ومؤسساتها بحيث صارت الوزارات عقارات حصرية لهذه الفئة وتلك.
ازاء هذا الواقع المركب واستحالة إنفاذ القوانين المرعية الاجراء وسط زحمة المطالعات النظرية حول الاصلاح والادارة وانتظام عمل المؤسسات، برز رأي الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله خلال اطلالته الأخيرة في الذكرى الثلاثين لانطلاقة المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، ليشكل على المستوى النظري مقترحًا اصلاحيًا جديًا، والشروع في تنفيذه محصن بمقبولية عامة من كل الأطراف ويشكل فاعلية اجرائية تدفع بقوة القانون وصرامة الاجهزة الرقابية الى الانتقال من حال المراوحة وغزارة الشعارات والمزايدات التي تستبطن وتضمر عكس المعلن في هذا الشأن، إلى المعالجة الاصلاحية الحقيقية القادرة على تنقية الادارة من شوائب التحاصص المرجح لكفة الطالح على الصالح والغث على السمين ما يسيء أولًا للجهة الطائفية التي سمت هذا الموظف أو ذاك من االأميين عادة في شؤون وشجون الادارة والعمل العام، وثانيًا يشكل عبئًا على الادارة المثقلة أصلًا بالأعطاب.
لقد جاء كلام سماحة السيد حسن نصر الله وصفة علاجية بسيطة غير أنها ناجعة دون اللجوء الى المشرط الجراحي العميق ومخاطره جراء امساك القوى السياسية بتلابيب الادارة. ومما قاله سماحة السيد: “… التعيينات الادارية والمواقع القيادية في الدولة خاضعة للمحسوبيات، والمحاصصة الطائفية لا مهرب منها لأن نظامنا طائفي، لكن لو كل طائفة تقدم أفضل عقولها، أفضل خبرائها، أفضل متخصصيها لتتولى المسؤوليات القيادية والادارية في الدولة لما كنا وصلنا الى ما وصلنا اليه حتى لو بقينا في نظام طائفي”.
هذا المنطوق لا بل هذه الفكرة التي أطلقها سماحة السيد تعني أن الطوائف تقدم أفضل ما عندها للوظائف العامة باشراف وبصمة الجهات المختصة من دون وشم الزعامات أو من ينوب عنهم، عندها يتم تشذيب الادارة من الشوك الذي نما بين ظهرانيها جراء زبائنية رائجة ومعتمدة وقاتلة في آن واحد للكفاءات والخبرات وتهجيرية المفاعيل بسبب قدرتها الاقصائية وعدوانيتها على أصحاب العلم والاختصاص وانحيازها لأهل الجهل والولاءات العمياء.
هذا الطرح في هذا المضمار المعقد يعتبر وظائفيًا عملية تعقيم ذاتي للادارة واعادة توليد وتوليف وتجديد ادارة خالية من عاهات الزبائنية والاستلحاق الأعمى لصالح الكفاءات العلمية، عندها تتحرر الادارة من براثن السياسة حتى لو بقينا في نظام طائفي كما قال سماحة السيد فيغدو هذا النقاء الاداري المحصن بالعلم خير هدية من الطوائف لمؤسسات الدولة فتنكفئ السياسة عن معاقل الادارة التي تحولت إلى ظل أولياء النعمة والفضل ويسقط الوسيط المستبد بين المواطن والدولة.
أكثر من ذلك، تتهاوى الشعارات الفضفاضة: أزمة نظام، أزمة حكم، تحاصص، تبادل منافع.. بين القوى القابضة على السلطة باسم الطوائف ويصير الجميع معفيين من العزف على وتر تغيير النظام الطائفي الذي بات مسلمًا أنه عصيّ على الكسر ومنهج التسوية هو السائد في لبنان كما يستحيل اللجوء الى العنف الثوري كأداة تغيير.
باختصار إنه فعل مقاومة وأداة تحرر على طريق بناء وطن الإنسان الحر العاقل المنعتق من قيود الولاءات الجهوية والفئوية.