الحلقة الثالثة – مفاعيل الانتصار في عملية «عناقيد الغضب»
حافظ حزب الله على وتيرة عمليات عسكرية صعودًا، ودخل العمل السياسي بشقّيه، الشق الرسمي من خلال المشاركة في العمل النيابي، بينما الشق الآخر هو التواصل الحزبي مع الأحزاب والتنظيمات في الساحة اللبنانية.
لذلك كان العمل المشترك ما بين السياسة والمقاومة متوازيًا، لم يقبل الدخول في المعترك السياسي على حساب المقاومة، كما أنه لم يترك العمل السياسي والانصراف للعمل الجهادي فقط، إنما تطلّبت المرحلة صعودًا سياسيًا يتداخل مع الاهتمام بالبيئة والعلاقات الشعبية وتنامي البيئة الحاضنة، كل ذلك جعل من حزب الله حزبًا سياسيًّا عقائديّا جهاديّا شعبيًا، حتى دخل في مرحلة الدعم المادي والمالي المباشر من خلال العمل الاجتماعي ولجنة إمداد الإمام الخميني(قدس) وجمعية جهاد البناء التي تولّت إعادة إعمار المنازل المدمرة نتيجة الاعتداءات الصهيونية لا سيّما عدوان «تصفية الحساب» في سنة 1993.
جمع حزب الله مختلف عناصر القوة، سواء من خلال تعزيز البيئة الاجتماعية، أو العمل التربوي الذي انطلق منذ ثمانينيّات القرن العشرين، كذلك العمل التبليغي والعقائدي، والعمل الإنمائي، والعمل الثقافي، فكان منظومة متجانسة فيما بينها ومتكاملة، لذلك لم يكن اهتمامه محصورًا في مكان معيّن أو ميدان واحد، إلا أن كل تلك الميادين تقود إلى المقاومة وحمايتها وحماية بيئتها وشعبها، وبالنهاية كانت المقاومة تنستند إلى العقيدة الإيمانية الصلبة التي تعود إلى كربلاء والمنطلق الإيماني بالله وبرسوله وبأهل البيت(ع).
شكّل حزب الله قاعدة قوة متشابكة، غير أن الدراسات والأبحاث والمقالات لم تتناول الجانب المدني والثقافي والتربوي والاجتماعي وغيرها من الجوانب الأخرى، كما ينبغي، إنما ركزت الاهتمام على الجانبَيْن السياسي والعسكري، نظرًا لارتباطهما المباشر بالواقع اللبناني الرسمي والإقليمي والدولي، لما يرتبط مباشرة بالصراع مع العدوّ الصهيوني، وإلّا لَما كان للبنان مكان بين الدول، ولا كان لرؤسائه مقام بين الرؤساء، لا سيّما أن بعض المتخاذلين كانوا قد رفعوا شعار «قوة لبنان بضعفه» انسجامًا مع مبادئهم القائمة على الاستسلام والتعامل مع الأعداء، إلى أن حضرت المقاومة بقوة في المحافل الدولية.
واستتباعًا، بما أن الحديث عن القوة العسكرية هو المتعارف عليه في ميزان القوة، فإن أبرز علامات القوة للمقاومة في المحافل الدولية، ظهرت بعد ما جرى في عملية «عناقيد الغضب» الصهيونية، التي فاقت همجية وتوحّشًا وتدميرًا عما كانت عليه في الاعتداءات السابقة.
لقد تضاعفت العمليّات العسكرية ضد المواقع الصهيونيّة، ونفذت المقاومة الإسلامية في العامَيْن 1995 – 1996، ما مجموعه (1048) عملية عسكرية، من أصل (1452) عملية، مجموع العمليات التي نفذتها مختلف فصائل المقاومة اللبنانية، ضد قوات الاحتلال وعملائه، في الجنوب والبقاع الغربي، أي ما نسبته (72 %) من العمليات، فكان لها وقعها الكبير على المجتمع الصهيوني، ووصول شريحة إلى الكنيست بدأت بالتفكير «بالانسحاب من الشريط المحتلّ بدون مكاسب ولا صلح ولا اتفاق، لكن بشرط الحصول على ضمانات أمنية»، إذ أعرب شيمون بيريز عن وجهة نظره بالانسحاب بعد استتباب الهدوء، واعتبر وزير الخارجية الصهيوني، يهودا باراك، الانسحاب نوعاً من الورقة الرابحة يلعبها ضد السوريين.
من جهة أخرى، أحدثت العمليات الاستشهادية التي نفذتها حركتا الجهاد الإسلامي وحماس، في فلسطين المحتلة، إرباكًا وتصدّعًا في البنيَتَيْن العسكرية والسياسية الصهيونيتَيْن، فبلغت عددًا غير مسبوق، وأوقعت عشرات القتلى والجرحى من الصهاينة، ما أرخت بثقلها على المجتمع الصهيوني.
هنا شعر وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر، بوجود خطر «إزاء رؤية حكومة بيريز وعملية السلام تنهاران معاً»، ما دفعه للعمل على إقناع قادة العرب والعالم، للاجتماع برئيس الحكومة الصهيونية شيمون بيريز، للإعراب «عن شجبهم وإدانتهم للإرهاب ويتوافقون على اتخاذ خطوات جدية لمكافحته»، ودعم بيريز معنوياً وسياسياً، وتطوير خطة عمل لمكافحة «الإرهاب»، لأن الشرق الأوسط يمرّ «بلحظة خطر فريدة».
بعد حشد زعماء (29) دولة عربية وأجنبية في قمة «صنّاع السلام» في شرم الشيخ، في 13/3/1996، لرفع معنويات الصهاينة، واستصدار غطاء سياسي لعملية عسكرية تقودها الصهاينة، من أجل تحقيق أهدافها، ومن خلفها تحقيق غايات السياسة الأميركية في قيادة العالم، فيما كانت سوريا الغائب الأبرز، إضافة إلى موقف لبنان الرسمي بمقاطعة القمة.
لم يكد مؤتمر شرم الشيخ ينهي أعماله، حتى تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية للمقاومة الإسلامية في الجنوب والبقاع الغربي، بما فيها عملية الشهيد علي أشمر الاستشهادية، في 20/3/1996، التي عًدّت تحدياً للقمّة.
تصاعدت حدّة التوتر في المنطقة، وانطلقت العملية العسكرية الصهيونية ضد لبنان، في 11/4/1996، تحت مسمّى عملية «عناقيد الغضب»، لنزع سلاح حزب الله، وإنهاء حالة المقاومة، كما هدفت العملية العسكرية إلى إرغام سوريا على التنازل في المفاوضات، وحصارها سياسيًّا ودبلوماسيًّا، بعدما انتزعت في «قمة شرم الشيخ» الغطاء السياسي والدعم المادّي والعسكري، إضافة إلى التنسيق الأمني مع بعض الدول المجاورة.
جاءت المواقف الداعمة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية للمقاومة وسوريا، فقد أرسل قائد الثورة الإسلامية، الإمام السيد علي الخامنئي، برقية إلى السيد حسن نصر الله، دعاه فيها إلى «عدم المرونة أمام الصهاينة لأنها ستزيد وقاحتهم ووحشيتهم».
بعد فشل العملية العسكرية الصهيونيّة من خلال صمود حزب الله وإفشال أهدافها، استطاعت المقاومة أن تفرض نفسها لاعبًا قويًّا في الساحتَيْن اللبنانيّة والإقليميّة، من خلال الاعتراف الرسمي الدولي بالمقاومة، المنبثق عن تفاهم نيسان المكتوب، وأكّد شرعيّتها، وابتعد عن الطلب بسحب سلاحها بعدما وجد ذلك مستحيلًا. وأعلن ناطق باسم وزارة الخارجية السورية، أن التفاهم «يوقف الاعتداء الوحشي على حياة السكان المدنيين، من دون المساس بحق المقاومة الوطنية اللبنانية المشروع في مقاومة الاحتلال الصهيوني».
لذلك حقّقت المقاومة انتصارًا نوعيًّا جديدًا من خلال:
– إفشال أهداف العدو الصهيوني.
– الاعتراف الدولي التامّ بالمقاومة وحقوقها.
– تعزيز الموقفَيْن اللبناني والسوري في المفاوضات.
– تثبيت المقاومة في الميدان العسكري والشعبي والسياسي في لبنان.
– تعزيز الإمكانات العسكرية، واستقدام المزيد.
– التفاف شعبي أوسع مما كانت عليه.
– انتقال صورة الانتصار إلى الشعوب العربية، لا سيّما الشعب الفلسطيني.
– تثبيت معادلة الردع مع العدو الصهيوني، بحماية المواطنين المدنيّين اللبنانيين من خلال قصف المستوطنات شمال فلسطين المحتلّة.
لذلك يمكن إطلاق تسمية على مرحلة ما بعد عملية «عناقيد الغضب»، مرحلة تعزيز الوجود، والدخول إلى الميدان الإقليمي، من خلال تراكم القوة والدخول في رسم المعادلات ضد العدو الصهيوني.