مخرج الأفلام الوثائقية الإيراني محسن إسلام زاده للوفاق:

في خضم التحولات الكبرى.. دور الفيلم الوثائقي عرض رواية المقاومة ضد الظلم

خاص الوفاق : نشهد اليوم نقطة تحول تاريخية سنشهد بعدها تغييرات كبيرة في هذه اللحظة لا يمكن لأحد أن يبقى غير مبالٍ؛ يعني أنه من المهم جدًا أن نقف في الجانب الصحيح. يجب على كل إنسان عادي في أي موقع ألا يسكت، وألا يكون غير مبالٍ، فكيف بمن يحمل الكاميرا أو الكُتاب يجب علينا جميعاً أن نسجل هذه الرواية

2024-12-23
عبير شمص

 

يمثل الفيلم الوثائقي أو كما يصطلح عليه اسم «سينما الحقيقة » أو «سينما الواقع »، أحد أهم المواد التلفزيونية وأكثرها تأثيرًا، نظراً لِما له من أهمية معرفية، وثقافية، وإعلامية، وتعليمية بالنسبة للمجتمعات، وأهمية الدور التسجيلي للفيلم الوثائقي في تجسيد الواقع ورواية الحقائق، وتحتوي الأفلام الوثائقية على كمٍّ كبير من الحقائق العلمية، أو التاريخية، أو السياسية، أو الطبيعية، إذ يعرض فيها المخرج الموضوع المطروح بحيادية تامة دون إبداء الرأي الشخصي وتمثل الصراعات السياسية والتاريخية، الشخصيات المؤثرة وهي أحد أهم مضامين الأفلام الوثائقية، إذ تقدم هذه الأفلام عبر تفسيرها للأحداث والقضايا العربية والدولية، معلومات ووثائق تساعد في الوصول إلى الحقائق، ومحاولة بناء وجهة نظر متكاملة وشاملة حول موضوع ما، وفي هذا السياق حاورت صحيفة الوفاق مخرج الأفلام الوثائقية الإيراني محسن إسلام زاده، وفيما يلي نص الحوار:

 

 

توثيق حرب غزة
يشير المخرج إسلام زاده أنه بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الثاني وبدء عملية “طوفان الأقصى”، ودخول حزب الله الحرب مع العدو الصهيوني، أراد العديد من منتجي الأفلام الإيرانيين توثيق الأحداث، خاصةً فيما يتعلق بموضوع غزة والقصف الشديد من قبل الكيان الصهيوني. أتذكر الليلة التي قصف فيها الصهاينة مستشفى المعمداني في غزة، حيث استشهد أكثر من 500 شخص في لحظة واحدة، وكان العديد من أصدقائي يشعرون بالخذلان والرغبة في السفر إلى فلسطين، ولكن كما تعلمون، الإيرانيون لا يستطيعون الذهاب إلى غزة والضفة الغربية وفلسطين، بل لا يمكنهم حتى السفر إلى مصر والأردن، ولبنان هو المكان الوحيد القريب من جبهة القتال. ولم تكن الاشتباكات في لبنان قد وصلت لذروتها ولم تكن شديدة مثل هذه السنة، وحينها بدأت قصة فيلمي تتشكل. فقد علمت أنه بسبب القصف الشديد من قبل العدو الصهيوني للعديد من المناطق من جنوب لبنان، نزح الناس قسريًا نحو مناطق أخرى في لبنان، ولكن بقي بعض السكان في المنطقة تحت القصف ولم يغادروا بيوتهم، وكان باستطاعتنا صناعة فيلم عنهم، بالطبع، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن فيلمي صُنع قبل 13 شهرًا، وكان بينه وبين عملية “طوفان الأقصى” فترة قصيرة. ذهبنا إلى لبنان وفتشنا وبحثنا، ووجدنا أبًا وإبنه بقيا في بلدة الخيام المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة، وكانا يرغبان في مواصلة حياتهما تحت نيران الصهاينة اليومية.
الحياة تحت النار في جنتنا الصغيرة 
يلفت المخرج إسلام زاده بأن فيلمه هو فيلم مباشر تحت نيران الحرب، يتحدث عن نمط حياة لبناني يواجه الحرب. ربما توقع البعض فيلماً أكثر حركة، لكن يجب أن أقول إنني كصانع أفلام وثائقية، أصور الأحداث الحقيقية، وليس بإمكاني إضافة أكثر مما تعيشه شخصية فيلمي. الحقيقة هي أن حياة الناس في لبنان مرتبطة بالجهاد والشهادة، لقد تعرض اللبنانيون للظلم والاعتداء من قبل الصهاينة لأكثر من أربعة عقود، ولذلك يشعرون بغريزة تدفعهم للمقاومة، وفيلمي يسرد تلك الأيام وتلك اللحظات، ويحمل مضموناً إنسانياً، وأسلوب الفيلم الإنساني يسمح مثلما أخبرني بعض الأصدقاء الذين يشاركون في مهرجانات دولية للغرب والأوروبيين والأمريكيين وللشعوب الحرة التي تعيش في ذلك الجزء من الكرة الأرضية مفهوماً لهم لماذا ينبغي أن نقاوم. 

صدمة وقلق بعد استشهاد السيد نصرالله

 

يشير المخرج إسلام زاده بذهابه مرتين إلى لبنان بعد عملية “طوفان الأقصى”، المرة الأولى كانت قبل 13 شهرًا عندما صنع فيلم “جنّتنا الصغيرة” في بلدة الخيام في جنوب لبنان. والمرة الثانية كانت قبل شهادة سيد شهداء الأمة الإسلامية السيد حسن نصر الله بثمانية أيام، عندما كانت الأحداث في ذروتها، وإذا أردت أن أصف لحظة شهادة سماحته فإن لبنان دخل في صمت شديد وفي حالة من الصدمة. لم يكن ذلك فقط لأنصار حزب الله، بل حتى خصومهم وبعض أعدائهم الذين سادت في أوساطهم حالة من الدهشة والصمت. وكان من الصعب علينا جميعًا تخيل العالم بلا سماحته، كنا دائمًا نفضل أن نُقتل أو نموت أو نستشهد قبله، وكان من الصعب جدًا تصديق أنه لم يعد موجودًا. كان لدينا جميعًا سؤال كبير حول واقع المقاومة بعده، وكنا نشعر بالقلق خاصةً بعد خطة العدو الصهيوني بدخول لبنان والتقدم وصولاً إلى نهر الليطاني، كنا جميعًا قلقين بشأن ما سيحدث. لكن الحمد لله، مع أولى كلمات الشيخ نعيم قاسم، أنارت بارقة الأمل قلوبنا، ثم مع بدء التوغل البري للصهاينة والمقاومة البطولية التي واجهته، أدركنا أن المقاومة ما زالت قائمة وهي تعمل بكل قوتها، والأكثر من ذلك، رأينا الوعود التي قطعها السيد تتحقق، إذ قال إنه إذا دخلتم أرضنا، سنحرق دباباتكم “الميركافا” أمام شاشات التلفاز مباشرة، وهذا ما حدث. وشاهدنا وقوف أبطال حزب الله أمام الصهاينة سداً منيعاً أمام تقدم الصهاينة، وكذلك وعد سماحته بأن شمال فلسطين المحتلة لن يكون آمناً للمستوطنين إلا بعد التوصل إلى وقف إطلاق نار في غزة. وها هم المستوطنون لا يزالون يخافون من الذهاب إلى المستوطنات، وكان نتنياهو قد وعدهم أنه سيفعل ما بوسعه ليجعل الشمال آمناً، لكن ذلك لم يتحقق للمعتدين الصهاينة.

 

ضرورة توثيق تحولات المنطقة

 

يرى المخرج إسلام زاده بأننا اليوم نواجه تحولات كبيرة، في المجالات السياسية والاجتماعية والعسكرية وحتى الثقافية، ونعتبر ذلك نقطة تحول تاريخية سنشهد بعدها تغييرات كبيرة. في هذه اللحظة لا يمكن لأحد أن يبقى غير مبالٍ؛ يعني أنه من المهم جدًا أن نقف في الجانب الصحيح. يجب على كل إنسان عادي في أي موقع ألا يسكت، وألا يكون غير مبالٍ، فكيف بمن يحمل الكاميرا، أو أصحاب الأقلام، يجب علينا جميعًا أن نُسجل هذه الرواية. لذا كنت مع العديد من الإيرانيين في لبنان، للتعريف بقصص المقاومة والناس هناك سواء عبر صناعة الأفلام أو عبر قوالب متنوعة في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، وهذه حاجة ملحة، وإذا قدم البعض أرواحهم في هذا الطريق، فإنني أعتبر ذلك جديرًا. وهذا العمل كبير جدًا، فهو توثيق بطولات المقاومة ومجتمعها، و يستحق أن نقدّم من أجله الشهداء.

 

مشاركات عديدة في المهرجانات المحلية والدولية

 

يتحدث المخرج إسلام زاده عن مشاركاته في البلدان المختلفة: لقد كنت أعمل بصناعة الأفلام الوثائقية لمدة حوالي عقدين من الزمن، وقد قمت بإنتاج وإخراج أفلام وثائقية في حوالي 20 دولة. لقد عملت في أماكن متعددة من ليبيا إلى فنزويلا، الصين، تركمانستان، أفغانستان، باكستان، تركيا، روسيا وغيرها. أكبر التحديات التي تواجهنا في صناعة الأفلام الوثائقية هو الوصول إلى رؤية صحيحة لرواية الأحداث والتحديات في الدول، واكتشاف وإيجاد قصة جيدة للفيلم الوثائقي. نحن نبحث عن القصص والروايات في الحروب والأزمات وفي الدول المختلفة لنصنع عملاً جذاباً. التحديات تبدأ من هنا، وتتمثل أيضاً في الحصول على تصاريح وإذن للبقاء لمدة طويلة في دول مختلفة لتنفيذ الفيلم الوثائقي المطلوب، بالإضافة إلى المسائل المالية، التي تشكل وبسبب محدوديتها عائقاً كبيراً للعمل.

 

ويتابع حديثه بالقول:” شاركت في عدة مهرجانات، من مهرجان سينما الحقيقة ومهرجانات فجر وعمار وغيرها، بالإضافة إلى بعض المهرجانات الخارجية مثل مهرجان حقوق الإنسان في إسبانيا، والأفلام البوليسية في موسكو، ومهرجانات أمريكية. وحصلت على عدة جوائز على أعمالي، عن فيلم صنعته في ليبيا وآخر في أفغانستان. بشكل عام، لقد كنتُ حاضراً في مهرجانات مختلفة، وتعتبر المهرجانات مكاناً لتقديم الأعمال، وهي مهرجانات كبيرة تلاقي اهتماماً من وسائل الإعلام والنقاد والجمهور العام، ولهذا نحن نرغب في المشاركة في مهرجانات مختلفة، إذ لا شيء بالنسبة لصانع الأفلام أغلى من رؤية عمله، وهذا ما يتحقق في المهرجانات برأيي.

 

رواة الحقيقة

 

يؤكد المخرج إسلام زاده بأنه يُطلق على صانعي الأفلام الوثائقية لقب رواة الحقيقة، ويجب أن يسعى صانع الأفلام الوثائقية دائمًا للبحث عن الحقيقة. تختلف كاميرا صانعي الأفلام الوثائقية بشكلٍ كبير عن كاميرا الصحفي، فهي تستطيع التوغل في أعماق الأحداث، وتملك نظرة عميقة حولها. يجب على صانع الأفلام الوثائقية أن يختار قصصًا من عمق المجتمع، فهو يلعب دورًا مهمًا في تسجيل التاريخ وتوثيق تلك اللحظات، وهذا الأمر يُؤخذ على محمل الجد في العالم، كما أن مكانته في إيران قد ارتفعت بشكل كبير في العقدين الأخيرين. يكسب صانع الأفلام الوثائقية تجربة  في عمله فهو يلاحظ مسألة  ما ويجري بحثاً عنها ويقدمها في شكل قصة في وثائقه، ويُدعى بعد ذلك مرارًا وتكرارًا إلى مراكز البحث ليتحدث عن عمله أمام النخب والباحثين والفنانين والجمهور العادي. ولذلك يمكنه أن يلعب دورًا جادًا في تشكيل وجهات النظر حول حدث معين. ومن المتوقع من المسؤولين أن يثقوا أكثر بصانعي الأفلام الوثائقية ويتركوا لهم الفرص للتواجد في الأحداث المختلفة. بعد تفجيرات البايجر، ذهبت إلى لبنان، وكان البعض يقول إن الوقت ليس مناسبًا لصناعة الأفلام الوثائقية، ويجب الاكتفاء بالأخبار أو بإنتاج أفلام قصيرة  لوسائل التواصل الإجتماعي، لكنني كنت أعتقد أنه يجب علينا أن نكون حاضرين. الآن بعد انتهاء العدوان البري الصهيوني على لبنان، تضاءلت بل واختفت الأخبار، ونسي الجميع. لكن تلك النظرة التفسيرية التي قمت بتطويرها كصانع أفلام وثائقية في لبنان إن شاء الله ستبقى، وستشكل مرجعاً لسنوات وسنوات.

 

تطور لافت في إيران بعد الثورة الإسلامية

 

يؤكد المخرج إسلام زاده بأن صناعة الأفلام الوثائقية في إيران شهدت بعد الثورة الإسلامية نمواً كبيراً، وتشكلت مجموعات عديدة، من بينها “رواية الفتح” التي كان يرأسها الشهيد “مرتضى آويني” وأشخاص آخرون مثل الدكتور “نادر طالب زاده” الذي قدم من أمريكا، وأخرين. لكن في التسعينيات شهدنا تراجعاً حاداً في هذا المجال، وبدأت في القرن العشرين مجموعات جديدة من الجيلين الثاني والثالث من “رواية الفتح” في تقديم أعمال أكثر جدية. اليوم هناك مئات من المخرجين، وإذا قارنت ذلك مع الدول العربية أو دول المنطقة، سترى أن صناعة الأفلام الوثائقية في إيران قد حظيت باهتمام جدي، وهو نتاج للنظرة الثقافية لثورتنا ونظرة القيادة الإيجابية للثقافة. ومع ذلك لا يزال البعض لا يأخذ الأمر على محمل الجد كما ينبغي، ولا يدرك أنه يجب أن يكون الوثائقيون حاضرين في مختلف الأحداث لتوثيقها وخلق عمل فني. وأن الجهود المبذولة في مواجهة تحدٍ أو مشكلة يجب أن تُسجل من قبل الوثائقيين. وآمل أن تتحسن الظروف مع مرور الوقت لتسهيل حضورنا في مختلف الأحداث.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص