مع إعلان نتائج امتحانات الشهادة الثانوية في السودان، تحوّل منزل عبد الله الطاهر إلى مسرح للفرح الصاخب المصحوب بـ”الزغاريد”، بعد حصوله على نسبة نجاح عالية أهّلته لاحقاً لدخول جامعة الخرطوم – كلية الهندسة. التفوق خفف معاناة الحياة وقسوتها عن عائلته الفقيرة.
لكنّ أفراح عبد الله لم تدم طويلاً بعدما تفاجأ بنفقات دراسية باهظة فرضتها إدارة جامعة الخرطوم على المقبولين هذه السنة، تبلغ نحو 580 ألف جنيه، ما يعادل ألف دولار في العام، وهو مبلغ تعجز عائلته ذات الدخل المحدود عن سداده، وها هو يجلس حالياً خارج قاعة الدرس، رغم مضي أسبوع على بدء العام الدراسي.
عبد الله الطاهر، يجسد واقع ما لا يقل عن 6 آلاف طالب وطالبة التحقوا بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا وجامعة الخرطوم، وفشلوا في سداد الرسوم الدراسية الباهظة هذا العام، التي ارتفعت عن السنة الماضية بنسبة تصل 1000%.
ويقود الطلاب في جامعتي “الخرطوم” و”السودان” حراكاً مناهضاً لزيادة الرسوم الدراسية، عبر وقفات ومسيرات احتجاجية، فيما لم تستجب إدارتا الجامعتين لاعتراضات طلابها، وأعلنتا بدء العام الدراسي، ما زاد من حدة الأزمة، وسط تحذيرات من شلل سيصيب الاستقرار الأكاديمي.
ويعيش السودان أوضاعاً اقتصادية قاسية تجلت في ارتفاع مطّرد في معدلات التضخم وتراجع قيمة العملة الوطنية “الجنيه” وغلاء طاحن في السلع والخدمات، الشيء الذي يجعل زيادة نفقات الدراسة الجامعية بمنزلة عبء إضافي كبير قد يعجز عن تحمله كثير من العائلات السودانية، وفق خبراء اقتصاد.
وبررت الجامعات السودانية زيادة النفقات الدراسية، وفق بيانات صحافية، بشح الدعم المادي الذي تتلقاه من الحكومة، في حين تحتاج إلى مبالغ ضخمة لتسيير العمل الأكاديمي، وخصوصاً الكليات التطبيقية، مثل الطب والهندسة التي تحتاج إلى معامل ومواد مكلفة، إلى جانب مخصصات هيئة التدريس العالية، بحسب زعم الجامعات.
وخلال أشهر قليلة ماضية، دخل أساتذة الجامعات السودانية في إضراب مفتوح عن العمل بسبب ضعف أجورهم، وتمت معالجة الأزمة بتطبيق زيادات ضخمة على مرتبات هذا القطاع، على أن تتم تغطية نسبة كبيرة من هذه المخصصات من الإيرادات الذاتية للجامعات (رسوم على الطلاب، استثمارات)، بعدما أعلنت وزارة المالية عدم قدرتها على توفير هذه المبالغ.
مبررات غير منطقية!
ويرى الطالب في جامعة الخرطوم عبد الله الطاهر أن مبرر جامعته لزيادة الرسوم غير منطقي، وكان على الدولة تحمل مسؤوليتها كاملة، فمجانية التعليم هي الشيء السائد في كل الدنيا، وتعدّ حقاً إنسانياً أصيلاً. وقال : “هذه المبالغ الكبيرة تفوق طاقتنا، ولن نستطيع دفعها”.
وشدد الطاهر على ضرورة التراجع الفوري عن هذه الرسوم؛ لأن الاستمرار في فرضها يعني أن التعليم سيكون للأشخاص الأغنياء فقط، ما يلحق ظلماً كبيراً بالشرائح الفقيرة، مضيفاً أنهم سيواصلون التصعيد ضد هذه الرسوم بالوسائل السلمية حتى يتم إلغاؤها.
وشكلت الرسوم الباهظة صدمة للطالب محمد عبد الرحيم الذي تم قبوله هذه السنة في كلية الهندسة – قسم التعدين، جامعة الخرطوم، ووقفت حائلاً أمام تحقق حلم ظل يراوده منذ طفولته بالدراسة في أم الجامعات السودانية “الخرطوم”.
وقال محمد عبد الرحيم ” إنه وصل إلى الجامعة وكان يتوقع فرض نفقات دراسية في حدود استطاعته، لكنه تفاجأ بأرقام هائلة تصل إلى 550 ألف جنيه وهي تفوق طاقة عائلته، لأن والده عامل يكسب رزقه يوماً بيوم، وبالكاد يغطي احتياجاتهم المنزلية، وأضاف: “ليس بمقدورنا مطلقاً توفير هذه الرسوم والأرقام الكبيرة، فلو كانت 60 ألفاً مثل العام الماضي لسعينا في سدادها”.
وأردف: “نحن ضد هذه الزيادات الخرافية التي لن نقدر عليها، لذلك منذ أول يوم أعلنت مقاطعتي عملية التسجيل في الجامعة، والانخراط في الحراك المناهض للرسوم متضامناً مع زملائي المتضررين، وسنستمر في مقاومة قرار الزيادة حتى يتم إلغاؤه”.
الزيادة غير قانونية
بدوره، قال عضو اللجنة المشتركة لمناهضة قرار زيادة الرسوم الدراسية الجامعية عمار أحمد إن الزيادات في نفقات الدراسة الجامعية في السودان ليست قانونية وغير منطقية، لأن معيار دخول الطلاب الجامعة هو الدرجة والتحصيل الأكاديمي، وليس على أساس طبقي أو مادي مرتبط بشرائح ذات دخل عال أو محدود، حسب وصفه.
وأضاف أحمد أن نحو 4 آلاف طالب وطالبة تم قبولهم هذا العام في جامعة الخرطوم، إلى جانب ألفين في جامعة السودان، متأثرين بقرار زيادة الرسوم، وسوف نواصل التصعيد حتى يتم إلغاؤها، فالآن 80% من الطلاب باتوا عاجزين عن دفع الرسوم التي هي أكبر من طاقتهم.
وتابع: “القبول بشكل عام على نفقة الدولة. لذا لن نقبل أي زيادة على رسومه من حيث المبدأ. وقد لمسنا تقبّل بعض الإدارات للحوار، ولكنها متعنتة ومصرة على تطبيق الزيادة، ونحن في تنسيقية طلاب جامعة الخرطوم سنواصل حراكنا المناهض لهذه الزيادات”.
هل يصبح التعليم الجامعي سلعة؟
وتوقع الأستاذ الجامعي بروفيسور مهدي شكاك أن تخلق أزمة الرسوم عدم استقرار في الجامعات التي عانت كثيراً خلال السنوات الماضية مع أزمة كورونا وغيرها، ما أدى إلى تراكم الدفعات من خلال مزيد من الإضرابات والاحتجاجات التي لا تصب في مصلحة العملية التعليمية”.
وأعرب شكاك عن بالغ أسفه من أن يصبح التعليم في بلاده مثل السلع يخضع لسياسة رفع الدعم الحكومي، وقال: “وزارة المالية رفعت يدها وتركت الأمر لإدارات الجامعات التي فرضت رسوماً بطريقة عشوائية وعدم وضوح، فكان الأجدى للجامعات أن تعد تقارير تحدد تكلفة أي طالب، ووضع الرسوم بناء على التكلفة، ثم مطالبة وزارة المالية بتحمل جزء منها”.
وشدد أن هذه الزيادات ستدفع الشرائح الضعيفة إلى الإحجام عن التعليم، وتركه لمصلحة الاحتياجات الحياتية الأخرى، ما يلحق ظلماً كبيراً بشرائح من المجتمع وحرمانها حقاً إنسانياً أصيلاً.
من يرفع العبء عن الطلاب؟
وفي هذا الجانب، يرى الخبير الاقتصادي محمد شيخون أن زيادة الرسوم في بعض الجامعات السودانية ستشكل عبئاً كبيراً على أسر مستوى دخلها لا يفي بالحاجات الضرورية، ويفاقم المعاناة المعيشية القائمة أصلاً في السودان.
وقال شيخون في : “مجانية التعليم هي الشيء السائد، يجب عدم إلقاء هذا العبء على جيب المواطن، وما حدث أمر يدعو للأسف الشديد .. دولة تلقي بجميع مسؤولياتها على جيب المواطن شيء غريب، ولا أعتقد وضعه في أي خانة موروثة من أي دولة أو أي نظام اقتصادي في الماضي أو المستقبل”.
وأضاف: “زيادة رسوم الجامعات لا تنفصل عن معاناة الأسر السودانية في كل مناحي حياتها، وخصوصاً الصحة والتعليم، التي تفاقمت بعد أن تهربت الدولة من مسؤولياتها تماماً من أهم الخدمات الاجتماعية، فالنتيجة الحتمية ستكون ارتباكاً في التعليم العالي وشللاً نتيجة التحركات الطلابية المناهضة”.