مديرة مجلة بقية الله للوفاق:

السيدة فاطمة الزهراء “عليها السلام” منارة المسلمات

هذه الأم التي خرّجت من كنفها وجناحيها نِعم القدوة للأمّة الإسلاميّة، واستمرت المسيرة بأولادها، واستمرّت رغم قصر عمرها المعدود بالسنين، منارة تقتدي به أمهات العالم، بل ورجاله، فقد كانت عليها السلام حجة تامة، مدرسة، وشعلة خالدة لا ينطفئ نورها؛ لأنّ الله متم نوره ولو كره المشركون

2023-01-28

عبير شمص

الوفاق/ خاص

إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق محمداً (ص) ليكون آية قدرته في الأنبياء، ثم خلق منه بضعته وابنته فاطمة الزهراء (ع) لتكون علامة وآية على قدرة الله في إبداع مخلوق أنثى تكون كتلة من الفضائل ومجموعة من المواهب والشمائل. فقد أعطى الله فاطمة الزهراء أوفر حظ من العظمة وأوفى نصيب من الجلالة بحيث لا يمكن لأية أنثى أن تبلغ تلك المنزلة.

فهي من زمرة أولياء الله الذين اعترفت لهم السماء بالعظمة قبل أن يعرفهم أهل الأرض، فقد نزلت في حقها الآيات المحكمات التي تتلى آناء الليل وأطراف النهار إلى أن تقوم الساعة، إنها الزهراء أم أبيها التي يثني عليها الله ويرضى لرضاها ويغضب لغضبها وصاحبة تلك المكانة الرفيعة العظيمة عند أبيها رسول الله (ص) والذي كم تحدث عن عظمتها وجلالة قدرها..

هذا الأنموذج الإسلاميّ كان ناطقاً بسلوكه وبأخلاقه بكتاب الله تعالى، فإذا أردنا أنْ ننظر إلى الزهراء(ع) سنستقي نوراً يُضيء به الكثير من الأُسر الإسلاميّة إذا ما سارت على خطى هذه الأمّ العظيمة . ” فالسيدة الزهراء(ع) مصداق كامل للمرأة المسلمة، وهي في أعلى مقام يمكن أن تبلغه، وهو القيادة. مع وجود هذه العظمة، فإنّ دور الأمّ والزوجة وربّة البيت كان واحداً من أدوار ومهامّ السيدة فاطمة الزهراء (ع) المهمّة. ستتناول هذه المقابلة التي أجرتها صحيفة الوفاق مع الأستاذة في جامعة المصطفى (ص) العالمية ومديرة تحرير مجلة بقية الله نهى عبد الله، وجهاً مضيئاً من كيانها النوري، لنرى ما هي الأُسس التي بلورت السعادة والاستقرار الأسري في حياة الزهراء (ع)، ولنراها (ع) كيف شكلت القدوة التي تدفع النساء المسلمات ليكّن بحكم تكوينهن الخاص، حلقة الوصل بين رب الأسرة ومن هو في واجهة الأحداث، وبين من هو في داخل الأسرة، فعندما يجد الأطفال تضامن أمهاتهم مع أبائهم في محنهم فإنهم -دون شك- سيكونون على النهج صامدين، ويواصلون نفس الدور الذي نهضت به الأم، والعكس ينتج العكس تماماً، فإذا كانت الأم في وادٍ، والأب يواجه مصيره لوحده، كيف بالإمكان توقع جيل يواجه التحديات؟ أو حتى يحافظ على هويته وكرامته؟

تزخر نصوص زيارة السيّدة الزهراء (ع) بجملة من الصفات الخاصّة بها. ولعلّنا نتساءل: كيف تمكّنت فتاة تبلغ 18 عامّاً فقط أن تكون سيّدة لنساء العالمين وأنموذجاً لهنّ؟

الزهراء (ع) هي الإنسان الكامل ذو الأبعاد المتعددة. هذه المرأة العظيمة الشأن، الجليلة القدر التي تُزهر لأهل السماوات إذا وقفت في محراب الصلاة، هي ذاتها تلك الابنة البارّة التي تمسح بيدَيها الصغيرتَين عن وجه أبيها لحظات الحزن، وهي الزوجة التي تُمسك جراحاتها وتنطلق نحو زوجها لتدافع عنه في لحظات العُسر، وهي الأمّ التي احتضنتْ فلَذات أكبادها وسقتْهم من روحها عطفاً، وإيماناً وتُقى؛ وكانت (ع) معلّمة للناس في عصرها، خاصّة النساء، فقد كنّ يقصدنها ويسألنها عمّا بدا لهنّ من الأحكام الشرعيّة وتفسير القرآن الكريم، وحلّ النزاعات وترسيخ العقائد وغيرها. وكانت الزهراء (ع) تجيب عن كل الأسئلة الموجّهة إليها بكل رحابة صدر، وهي بذلك تؤصّل العديد من القيم والأصول الأخلاقيّة والفقهيّة، لتكون بيد كلّ الأجيال. إنّها سيّدة نساء العالمين.

تُمثل السيدة الزهراء (ع) قدوة للمرأة أيضاً من حيث السلوك والحياة الاجتماعية، كيف نلاحظ ذلك في تراثها؟

نعم صحيح، ومن ذلك أنها أشارت(ع) إلى ضرورة وجوب الستر على المرأة، وظهر ذلك في سلوكها وسترها طوال حياتها، بل ووصيّتها بذلك بعد موتها. فقد ورد عن أسماء بنت عُميس أنّ فاطمة بنت رسول الله (ص) قالت لها: “إنّي قد استقبحت ما يُصنع بالنساء أنّه يُطرح على المرأة الثوب فيصفها لمن رأى”، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله أنا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجريدة “سعف النخل” رطبة فحسّنتها ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة(ع) : ” ما أحسن هذا وما أجمله! لا تُعرف به المرأة من الرجل”؛ أي أنها عليها السلام ترفع مستوى حساسية المرأة وحرصها على حجابها وسترها حتى ما بعد الموت، لتسن سنّة فاطميّة في هكذا مورد.

كيف كانت فاطمة تلك الزوجة التي قال فيها الامام علي(ع) : “كنت أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان؟

لعلّه من المتعذّر، الحديث عن حياة أيّ زوجة بمعزل عن البيت الزوجيّ الذي عاشت فيه ومعرفة حجم المسؤوليّات والأخطار والتحدّيات التي واجهها ذلك البيت، فكيف لو كان هو البيت العلويّ الذي واجه تحدّيات على مستوى الأمّة، وتهدّدته الأخطار والمكائد الكبرى، وحيكَت ضدّه الدسائس والمؤامرات التي استهدفت بنيان الدّين وصرْح الرسالة، عندها سنشعر بذلك الدور الكبير لسيّدة عظيمة كالسيّدة الزهراء(ع).

وإذا أردنا الوقوف على نصٍّ صريح يبيِّن لنا حقيقة وكمال السيّدة الزهراء عليها السلام كزوجة، فإنّه من الطبيعيّ أن نرجع إلى كلام أمير المؤمنين (ع) ، والذي يبيِّن فيه ليس كمال السيّدة الزهراء كزوجة فحسب، بل كمال الزوجة بشكلٍ مطلق؛ فقد قال أمير المؤمنين (ع) في حقّها: “فوالله ما أغضبتُها ولا أكرهتُها على أمرٍ حتّى قبضها الله عزّ وجلّ، ولا أغضبتْني ولا عَصَتْ لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان”.

وهذا الحديث يُظهر مدى المساحة الإنسانيّة المشتركة بينهما، والتي لو رجع إليها أيّ زوجين لأدركا أنّ الحقوق الإنسانيّة هي التي تفرض جوّ الوئام والانسجام بين الطرفين، وأنّ احترام هذه الحقوق وتقديسها من أوجب الواجبات في الحياة الزوجيّة.

كيف شكلّا (عليهما السلام) نموذجاً في صياغة نظام إدارة الأسرة، وتقسيم المهام بين الزوجين؟

ربما شكّلت هذه النقطة أولى النقاط في حياة وسعادة أيّ بيت زوجيّ، وفي هذه النقطة نقرأ ما جاء عن أبي جعفر (ع) أنّه قال: “إنّ فاطمة ضمنت لعليّ: عمل البيت والعجين والخبز وقمّ كنس البيت، وضمن لها عليٌّ ما كان خلف الباب: نقل الحطب، وأنْ يجيء بالطعام، فقال لها يوماً: يا فاطمة، هل عندكِ شيء؟ قالت: والذي عظّم حقّك ما كان عندنا منذ ثلاث إلّا شيء آثرتك به، قال: أفلا أخبَرْتني؟ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهاني أن أسألك شيئاً، فقال: لا تسألين ابن عمّك شيئاً، إن جاءك بشيء عفواً وإلّا فلا تسأليه…”.

وفي روايةٍ أنّه قضى رسول الله (ص) بخدمة فاطمة دون الباب، وقضى على عليّ (ع) بما خلفه. قالت فاطمة عليها السلام: ” فلا يعلم ما داخلَني من السرور إلّا الله، بإكفائي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحمّل رقاب الرجال”. هذا القضاء جعل وجه فاطمة يتهلّل بالبِشر ويداخلها سرورٌ عظيم؛ لأنّها كانت تدرك أنّ معقل جهاد المرأة بيتها، وأكبر التحدّيات التي تواجهها إنّما تقع داخل المنزل، والتي يأتي في مقدّمتها تربية الأطفال وبناء الجيل الرساليّ الواعيّ الذي تليق به حمل أعباء مسؤوليّة مواجهة التحدّيات التي عصفت بالأمّة في تلك المرحلة، فجعلها كورقةٍ في مهبِّ الريح.

ولقد كانت سلام الله عليها تبذُل قصارى جهدها لإسعاد أُسرتها، ولم تستثقل أداء مهامِّ البيت رغم كلّ الصعوبات والمشاقّ، حتّى إنّ عليّاً أمير المؤمنين(ع) رقّ لحالها وامتدح صُنعها، وقال لأحدهم: “ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة؟ إنّها كانت عندي، وكانت من أحبّ أهلي إليه، وإنّها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرّحى حتى مَجِلت يدها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد”.

عندما أصبحت عليها السلام أمّاً، باتت مواقفها التربويّة محطّة نحاول أن نقرأها بعين المتعطش، لنستقي منها أساليب عمليّة، ما هي أبرز هذه الأساليب؟

كانت تقوم الزهراء (ع) بدورها كأم في أعلى درجات كمال هذا الدور في تربية أولادها. وربما استطعنا تتبع ثلاثة أساليب:

الأسلوب الأول: التربية بالعادة: يعتمد على تعويد الطفل على نمط معيّن وسلوك معيّن. فالزهراء (ع) كانت العابدة التي تقوم في محراب صلاتها، فيزهر نورها لأهل السماوات. هذا المشهد العبادي المتكرّر أمام أولادها هو نوع من أنواع التربية بالعادة، كما جسّدت نموذج كيفية البذل في سبيل الله ليؤْثِرَ أولادهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فصامتْ (ع) معهم ثلاثة أيّام، ولم تكن تفطر إلّا على كسرات الخبز، لكي تقدّم كلّ ما تملك من الطعام صدقة في سبيل الله، فكانت تُطعم الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وهذا من أنواع التربية بالعادة على التضحية والعطاء؛ ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ (الإنسان(8).

الأسلوب الثاني: التربية بالقدوة: وقد كانت (ع) نِعم القدوة لعامّة المسلمين إلى يوم القيامة، وكذلك حال أولادها الذين هم في دارها، فقد ربّتهم على الوقوف في وجه الظالمين، فكان أولادها في مواقفهم كالزهراء (ع) يتجرّعون كل الأذى في سبيل الدين. وعلى الصبر على الطاعة، فعندما ينظر إليها الحسن (ع) ويراها تتعبّد في محرابها حتى تتورّم قدماها وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، يسألها: يا أمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فتقول:  “يا بنيْ، الجار ثم الدار”.

الأسلوب الثالث: التربية بالموعظة: ربّت السيّدة الزهراء (ع) أولادها بالموعظة الحسنة، ويروى عنها الكثير من الروايات والأحاديث التي تتحدّث فيها عن ثواب الأعمال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الأم التي تذكر الروايات أنّها في ليالي القدر كانت تقلّل لهم طعام الإفطار، وتطلب منهم أن يناموا في النهار، ليستعينوا بذلك على إحياء ليالي القدر، وهم في عمرِ صغير، وتحدّثهم عن ثواب وعظَمة هذه الليالي وتحثّهم على أن يكونوا إلى الله أقرب، فكانت تفوح من موعظتها الحسنة وكلامها رائحة الجمال العبادي والنفحات الإلهيّة.

هذه الأم التي خرّجت من كنفها وجناحيها نِعم القدوة للأمّة الإسلاميّة، واستمرت المسيرة بأولادها، واستمرّت رغم قصر عمرها المعدود بالسنين منارة تقتدي به أمهات العالم، بل ورجاله، فقد كانت عليها السلام حجةً تامة، مدرسة، وشعلة خالدة لن ينطفئ نورها؛ لأنّ الله متم نوره ولو كره المشركون، جعلنا الله من المتأسيات بها سلام الله عليها.

المصدر: الوفاق خاص