تُعدّ منطقة الشرق الأوسط مهداً ومنطلقاً للأديان التوحيدية، ومنها المسيحية، وعليه فإن مسيحيي المنطقة يعيشون في أرضهم الأصلية، ويعدون جزءاً من نسيج الشرق ومنطقة الشرق الأوسط، ولقد عاش المسيحيون والمسلمون في سلام واطمئنان لسنوات طوال، ففي إيران يمثّل المسيحيون واحداً بالألف من تعداد السكان، ويستحوذون على واحد في المئة من مقاعد مجلس الشورى ، ويمارسون طقوسهم في عشرات الكنائس المنتشرة في مختلف أرجاء إيران، واقعٌ يعكس العلاقة الوطيدة بين المكون المسيحي والمجتمع الإيراني منذ عقود.
وهذا يدل على التنوع الثقافي والحضاري في هذا البلد، والذي تجلى ويتجلى بالقيم والمثل العليا التي تنتهجها القيادة الإيرانية الحكيمة، سواء عبر التعايش الإسلامي المسيحي النموذجي، أو حرية ممارسة الأقليات لشعائرها الدينية، أو من خلال عاصمتها طهران التي كانت وما تزال ملتقى الحوارات بين الأديان والمذاهب، أو لجهة دعم المستضعفين في العالم ضد الجور والظلم والمستمد من مبادئ الثورة التي حاربت ظلم الشاه البائد ومن خلفه قوى الاستعمار والاستكبار، والمتجسد اليوم بمساندة إيران للمقاومة في لبنان وفلسطين ضد العدوان والاحتلال الصهيوني.
الحريات الدينية واحترام الأديان
لقد تبلورت الثورة الإسلامية الإيرانية على أسس إنسانية وأخلاقية، وإسلامية تقتضي أن تقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى جانب الإنسان بما هو إنسان، وأن تنظر إلى الجميع نظرة واحدة. فاحترام الإنسان، بصرف النظر عن دينه وطائفته وقوميته، يُشكل أصلاً أساسياً في السياسة الإيرانية، وهذا الأصل لا ينحصر داخل إيران، بل إن الجمهورية الإسلامية تعتمده كأصل عالمي، وعليه فإن نظرة النظام الإسلامي الإيراني إلى البشر، من أي دين وطائفة، هي نظرة متعادلة.
لذا يُعد احترام المذاهب والديانات الأخرى ومعتقدات الأقليات في إيران من المقدسات والمسلمات الوطنية، التي لا غبار عليها، واندماج أتباع هذه الديانات في المجتمع الإيراني كامل لناحية ممارسة كافة حرياتهم وحقوقهم المدنية والسياسية بلا تمييز أو انتقاص يجعلهم موضع غبن أو تخوّف على وجودهم كما الحال في دول أخرى.
وضمان هذه الحريات والحقوق، والحفاظ على خصوصياتالأقليات، ليس بالأمر المستحدث في إيران، بل هو مكرّس دستورياً وبشكلٍ عصري وصريح، في طيات نصوص الدستور الإيراني ما بعد الثورة، ولا يزال مطبّقاً حتى اليوم.
المسيحيون مكون من نسيج المجتمع الإيراني
الأرمن والكلدان والآشوريون في إيران ممثلون بمجلس الشورى الإسلامي من أصل 290 نائباً، ويتمتع مسيحيو إيران بحرية إقامة المراسم الدينية والعبادية بشكلٍ كامل. أكثر من 150 كنيسة تنتشر في محتلف أرجاء البلاد معظمها في أصفهان ومحافظتي آذربايجان الشرقية والغربية والعاصمة طهران، وإحدى أقدم كنائس العالم موجودة في محافظة آذربايجان الغربية في إيران، وإسمها كنيسة “قره”، ويعتقد أن هذه الكنيسة هي مزار “تاديوس” أحد تلامذة السيد المسيح وحوارييه، وقد بنيت في القرن السابع الميلادي، وسجلت هذه الكنيسة العام ۲۰۰۸ في منظمة اليونيسكو كتراث ديني عالمي.
وفي مجال التعليم والثقافة توجد في إيران إكثر من 50 مدرسة خاصة مسيحية، ومن جملة النشاطات التي يمارسها المسيحيون في إيران: نشر الصحف والمجلات المتعددة مثل أرارات، أراكس وغيرها، إضافة إلى طباعة الإنجيل باللغة الفارسية وغيرها. كما يوجد أكثر من 50 مركزاً ثقافياً مسيحياً في طهران وحدها، إضافة إلى وجود مجتمعات ثقافية ورياضية بإسم آرارات ومراكز عدة لرعاية كبار السن والأيتام الخاصة بالمسيحيين.
ويبقى الأهم في رأي مسيحيي إيران هو التعايش السلمي مع الجمهورية الإسلامية حكومةً وشعبا ًووفق دستور الجمهورية فإن المكون المسيحي يحظى بالحقوق التي يحظى بها أبناء الديانة الإسلامية وعاداتهم وتقاليدهم وكنائسهم محط احترام الشعب الإيراني .
والمسيحيون في الجمهورية الإسلامية، رغم أنهم يعتبرون أقلية، لكنهم في الحقيقة مكون أساسي فينسيج المجتمع الإيراني، ويتمتعون بالحرية الكاملة والحقوق السياسية والإجتماعية، ففي مجال الشؤون الاجتماعية يدير المسيحيون جميع شؤونهم المتعلقة بالزواج والطلاق والوصية وتقسيم الإرث طبق الأحوال الشخصية المسيحية.
الدفاع عن إيران واجبٌ على الجميع
الكل في إيران سواسية ويتمتعون بحق المواطنة، بلا تمييز. للمسيحيين داخل هذا البلد مكانتهم الخاصة وحضورهم يتجلى في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والإقتصادية، والقيادة الإيرانية سعت جاهدة على مدى سنوات طوال للحفاظ على هذا التواجد وصيانته، وإلى إشراكهم في السلطة والقرار، وهم قدموا بالمقابل للوطن الكثير وقدموا شهداء في الحرب المفروضة على إيران، في أنموذج راقٍ يحتذى لقتال المسلم والمسيحي جنبًا إلى جنب دفاعًاعن العرض والوطن، ولم تكن زيارات سماحة الامام آية الله العظمى السيد علي الخامنئي إلى منازل عائلات الشهداء المسيحيين في عيد الميلاد سوى أنموذج جلي لمدى الاحترام الذي تكنه القيادة الإيرانية للمسيحيين ليس في إيران فحسب بل في العالم كله.
خاض الشباب المسيحيّون الإيرانيّون في ذروة أيام الثورة الإسلاميّة وكذلك في الدفاع المقدس مسار المكافحة لنظام الشاه البائد والاستكبار العالمي. هذه المساعدات كانت تتجسّد أحياناً بالمشاركة المباشرة في ميادين الصراع، وفي أحيانٍ أخرى على هيئة مساعدات لوجستيّة لخطوط جبهات القتال الخلفيّة.
يحترف كثير من المسيحيّين في إيران مهنة الميكانيك وتصليح الآليّات والسيارات. وخلال حصار آبادان في أعوام الحرب المفروضة، لم يتركوا شأنهم شأن سائر شركائهم في الوطن مدينتهم، بل حضروا إلى جانب إخوانهم ليساعدوهم في إصلاح الآليّات في ميدان الحرب.
شركاء في التضحية
وفق الإحصائيات الرسمية التي نشرتها مؤسسة الشهيد، هناك مايقارب 90 شهيداً مسيحياً بذلوا دماءهم في الحرب المفروضة، أغلبية هؤلاء الشهداء كانوا جنوداً في الجيش الإيراني، ومن هؤلاء الشهداء الشهيد “زوريك مراديان” والذي استشهد في مدينة بيران شهر الواقعة في شمال غرب البلاد والشهيد “جيلبرت ملكم آبكاريان” الذي استشهد في جنوب غرب البلاد، والشهيد “رازميك داويديان” والذي جاء في وصيّته : “شركائي الأعزّاء في الوطن، لقد بذلتُ روحي في سبيل حريّة الوطن. الإخوة الأعزّاء، لا تنزعجوا من استشهادي، لأنّ هدفي منذ بدايات الثورة أن أبذل روحي من أجل الوطن وحريّته، لقد نلتُ هذا الشرف بزيّ الجنديّة حتى يُذكر اسمي إلى جانب أسماء الوطنيّين”.
وهناك مايقارب من 26 شهيداً مسيحياً غير عسكريّ أستشهدوا على يد التنظيمات الإرهابية بسبب وقوفهم إلى جانب الثورة الإسلامية أو استشهدوا جراء قصف بيوتهم في الغارات الجويّة لنظام صدام البائد، ومن هؤلاء شخص يدعى “إِدموند مؤسسيان” بعمر19 سنة، استشهد بعد مُضيّ أشهر من إنتصار الثورة الإسلامية، بسبب تأييده للثورة في عام 1982 على يد أفراد من منظمة منافقي خلق الإرهابية أمام بيته. وبعد مُضيّ ثلاثة أشهر، أُستشهد والده الذي كان ينتمي إلى الطريق الجهادي نفسه على يد المنافقين.
ختاماً قوافل الشهداء التي قدّمها أبناء الشعب الإيرانيّ في بدايات الثورة الإسلاميّة، وبعد الانتصار في الحرب المفروضة على إيران، دليلٌ على الحضور الحيويّ والفعّال لهذا الشعب في الثورة وبناء الدولة. وما يُميّز شهداء الثورة الإسلاميّة في المرحلتَيْن، هو أنّك ترى جميع النّاس على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم وأديانهم يواجهون الظّلم والظّالمين، ويؤثرون العزّة والكرامة على الحياة الذليلة، ولهذا، نجد أنّ الشهادة وتقديم القرابين على مذبح العزّة كانت سمةً تميّزت بها جميع شرائح المجتمع الإيرانيّ.