أجرى موقع KHAMENEI.IR الإعلامي حواراً مع الدكتور علي أكبر أحمديان، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، وتطرّق فيه تفصيلياً إلى ملف الحضور الاستشاري لإيران في سوريا، ومنطق الحضور والشروط المسبقة له، وسبب تقليص إيران حضورها في سوريا بعد مرحلة «داعش»، ونقاط اختلاف «داعش» والمسلّحين الذين يحكمون سوريا، وكيفيّة تعامل إيران مع هؤلاء المسلّحين أثناء الأعوام الماضية ونوع رؤيتها تجاههم، وسبب غياب تدخّل إيران على المستوى العسكري في الأحداث الأخيرة التي حدثت في سوريا، وأخيراً، تأثير هذه الأحداث على محور المقاومة والقدرة على مساندته.
مع سقوط الحكومة السوريّة بأيدي المهاجمين المسلّحين، برزت أسئلة وتكوّنت إبهامات كثيرة في هذا الصّدد. انشغل أعداء محور المقاومة منذ أعوامٍ خلت، وعلى نحو متواصل وضاغط، بتنفيذ حرب نفسيّة وإعلاميّة بشأن حضور إيران في سوريا، ووجدوا الأجواء الجديدة مناسبة للخوض في مرحلة جديدة من هذه الحرب النفسيّة والإعلاميّة وبثّوا أنواع الشبهات والأكاذيب، الكبيرة منها والصغيرة، بصورة واسعة عن محور المقاومة وحضور إيران في سوريا وأسباب هذا السقوط وكيفيّته ومواضيع شبيهة أخرى. بيّن قائد الثورة الإسلاميّة في خطابه المهمّ في تاريخ 17/12/2024، الذي تناول فيه الحديث عن أحداث سوريا، «ما حدث ويحدث أحياناً العمل على إخفائه عن العيون» وتابع شرح «أوضاعنا وحركتنا وحركة المنطقة ومستقبلها» ورسم معالمها أيضاً.
ضمن هذا الإطار، أجرى موقع KHAMENEI.IRالإعلامي حواراً مع الدكتور علي أكبر أحمديان، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، وتطرّق فيه تفصيلياً إلى ملف الحضور الاستشاري لإيران في سوريا، ومنطق الحضور والشروط المسبقة له، وسبب تقليص إيران حضورها في سوريا بعد مرحلة «داعش»، ونقاط اختلاف «داعش» والمسلّحين الذين يحكمون سوريا، وكيفيّة تعامل إيران مع هؤلاء المسلّحين أثناء الأعوام الماضية ونوع رؤيتها تجاههم، وسبب غياب تدخّل إيران على المستوى العسكري في الأحداث الأخيرة التي حدثت في سوريا، وأخيراً، تأثير هذه الأحداث على محور المقاومة والقدرة على مساندته.
ما هو الجوهر النظري لرؤية الجمهوريّة الإسلاميّة، وتبعاً لها المؤسسات الأمنيّة في البلاد، التي تلتقي كلّها في الأمانة العامّة للمجلس الأعلى للأمن القومي، تجاه مقولة «الأمن القومي»؟
من وجهة نظرنا، الناس هم عامود الأمن القومي. لقد انتصرت الثورة الإسلاميّة بفضل الناس، ونشأت بواسطتهم وهم سبب بقائها. النظريات كلّها التي تُطرح بشأن قضيّة «الأمن القومي» تندرج ضمن إطار الناس. عندما أتحدّث عن «الناس»، أعني الناس كلّهم، لأنّ الناس جميعاً ثاروا. هذا التصوّر بأن نظنّ بأنّ مجموعة خاصّة أطلقت الثورة في البلاد، هو ليس تصوّراً صحيحاً.
هذه الرؤية متجذّرة في الأسس النظريّة والمواقف العمليّة لقائد الثورة الإسلاميّة أيضاً. قبل عامين أو ثلاثة، قال سماحته أن لا معنى للجمهوريّة الإسلاميّة من دون الناس، وهي لا شيء دونهم. لقد قرّرت هذه الثورة الإسلاميّة منذ انطلاقتها أن تسير مع الناس وأن ترى قدرتها متمثّلة في مشاركتهم وحضورهم وأن تعدّ قوّتهم قوّتها. حسب تعبير الإمام الخامنئي، «السيادة الشعبيّة الدينيّة» تعني أنّ «الناس» أسياد المجتمع وأسياد أنفسهم وفقاً للإسلام. إنّ الثورة الإسلاميّة أعلت هذا الصوت في العالم أيضاً. لذلك، أينما ذهبت هذه الثورة الإسلاميّة، فإنّ مؤشّرها البارز كان أنّ الناس جميعاً ارتقوا، لا مجرّد شخص واحد.
بشأن سوريا أيضاً، إذا كانت تُجرى نقاشات بشأن هذا الموضوع، فإنّ القضيّة هي أنّنا لم نكن من أسّس الحكومة السوريّة، وكانت حكومة الأسد قائمة قبلنا وكانت صلبة أيضاً، وبسبب وجه الاشتراك العظيم والممدوح الذي يتمثّل في غياب مهادنة الكيان الصهيوني ومقاومة أمريكا وإسرائيل، كانت لدينا علاقات مع بعضنا وكنا نقدّم الدعم المتبادل.
النقطة المهمّة الثانية التي نراعيها نحن هي نظريّة قائد الثورة الإسلاميّة التي تقوم على «المثاليّة الواقعيّة». سماحته أمام الثنائيّة الشائعة «المثاليّة» أو «الواقعيّة»، طرح هذه النظريّة وأكّد أنّ المثاليّة محض وهم من دون الواقعيّة، وأنّ الواقعيّة من دون المثاليّة هي روتين أيضاً.
في العقد الأخير ومع تصاعد وتيرة نموّ الجماعات الإرهابيّة في المنطقة، أقدمت جمهوريّة إيران الإسلاميّة أيضاً على تنفيذ عمليّات عسكريّة ضدّ الإرهاب، وكان لها حضورٌ عسكري مباشر أو استشاري خارج الحدود الرسميّة للبلاد. بطبيعة الحال، يرتكز الحضور العسكري والاستشاري لإيران على بعض المبادئ والضوابط الخاصّة. ما هي هذه الضوابط؟
إنّ حضور جمهوريّة إيران الإسلاميّة في أيّ مكان، حتى في ذلك المكان الذي يكون منطلق حضورها فيه مثاليّاً، يرتكز على مبادئ معيّنة. قد يكون ارتُكبَ خطأٌ معيّن أيضاً على نحو استثنائي، لكن دائماً ما كان الأساس هو هذه المبادئ التي سأذكرها:
المبدأ الأوّل هو الدفاع الحاسم عن البلاد والناس والمصالح القوميّة في مقابل الأجانب. لم يكن هناك أيّ شكٍّ أو تردّد في هذا المبدأ في يوم من الأيام. إن كان العدوّ أمريكا أو “إسرائيل” أو بلد صغير أو جار؛ دائماً ما كان أساس العمل هو هذا المبدأ.
المبدأ المهمّ الآخر هو أنّها لم تكن المبادرة إلى شنّ الهجوم على أيّ أحد. لقد كان قائد الثورة الإسلاميّة ملتزماً حقّاً بهذا المبدأ. في عدد من الأحيان، جعل الآخرون أمراً معيّناً يصل إلى مرحلة اتخاذ القرار، ولكنّه كان عندما يصل إلى مستوى القيادة، يلقى ممانعة من سماحته، وهذا ما تعلّمه سائر المسؤولين تدريجياً أيضاً.
المبدأ الثالث هو انعدام التدخّل في شؤون سائر الدول. الثورة الإسلاميّة مع شعاراتها المثاليّة كلّها التي تحملها والتي لها طابعٌ وطنيّ عالمي في بعض الأحيان، ولكنّها لم تتدخّل في أيّ بلد انطلاقاً من تلك الأهداف أو حتى من أجل تحقيق مصالحها الوطنيّة – هذا هو مصداق الواقعيّة – إلا مع توافر شروط ثلاثة:
الأوّل هو أنّه تقديم الحكومة الرسميّة هناك طلباً رسميّاً. في سوريا، وكذلك في العراق، كنّا نملك طلباً رسميّاً من حكومتي البلدين في ذلك الوقت من أجل الحضور والتواجد.
على سبيل المثال، إن كنتم تذكرون، في قضيّة اغتيال الشهيد سليماني واستشهاده، قال رئيس وزراء العراق إنّني أنا كنت من دعيت جنابه للمجيء إلى العراق. أثناء حضورنا من أجل التصدّي لفتنة «داعش»، طلب منّا السيد نوري المالكي (رئيس وزراء العراق في ذلك الحين) التصدّي لـ«داعش». عليه، كان الطلب الرّسمي شرطاً حتميّاً.
ثانياً، تجنّب مواجهة الناس. كلّ من يدعونا لأن نذهب إلى هناك اليوم مثلاً حتى نشتبك مع الناس من أجل تحقيق مصالحه، كن على ثقة أنّنا لن نلبّي له مثل هذا الطلب، وهذا من المبادئ التي يُتقيّد بها بدقّة.
ثالثاً، وجود مصالح أو أهداف مثاليّة حتميّة. يجب أن تكون لدينا هناك مصالح قوميّة حتميّة أو هدفٌ حتمي، مثل «الدفاع عن المظلوم» على سبيل المثال، الذي هو من أهدافنا وثوابتنا ومبادئنا. إذا تعرّض شعبٌ للظلم وتوافر إلى جانب ذلك الشرطان اللذان ذكرتهما، لا يوجد أيّ مبرّر يجعلنا لا نخوض ونشارك، فحينها يصبح لدينا تكليفٌ دينيٌّ وإنسانيّ.
طبعاً أحياناً لا يكون الدفاع عن المظلوم متيسّراً، وفي هذه الحالة لا يمكننا فعل أيّ شيء ونستطيع أن نتبرّأ بألسنتنا فقط. لكن عندما تكون الظروف مهيّأة ويكون الناس رازحين تحت وطأة الظلم وتطلب منا حكومتهم أيضاً تقديم المساعدة، لا يكون هنا أيّ مبرّرٍ لانعدام تقديم المساعدة، وذلك مع مراعات مبدأ المساعدة، لا أن نحلّ محلّهم. أي يجب أن يكافح ذاك الشعب بنفسه وأن يكون حاضراً في الميدان، حتى نقدّم نحن المساعدة له أيضاً.
لم تكن العلاقات العسكريّة والأمنيّة بين إيران وسوريا محدودة بالعقد الأخير. ما هي فلسفة هذه العلاقات وما هو سبب حضور إيران في سوريا، ثمّ تقليص هذا الحضور العسكريّ لها؟
منذ أن قدّمت الحكومة السوريّة في عهد حافظ الأسد الدعم بصدق للثورة الإسلاميّة، وفي الحرب أيضاً، رغم أنّ الحزب الحاكم للعراق كان حزب البعث، أعلنت دعمها الحاسم لنا، طوّرنا علاقاتنا الرسميّة والميدانيّة مع هذا البلد. إنّ واحداً من أسباب التقارب بين سوريا وإيران كان أنّ مصر والأردن كانا قد هادنا الكيان الصهيوني، ولكنّ سوريا رفضت الرضوخ لهذه الهدنة، وعليه، كانت تشعر بنوعٍ من الخطر والوحدة.
لكن من جهة أخرى، كان نظام الحكم في سوريا مثل سائر الأنظمة العربيّة في المنطقة. كان الوجه الإيجابي الذي يميّز عائلة الأسد أنّهم لم يتراجعوا حقّاً أمام الضغوط الدوليّة والإقليميّة كلّها؛ والمفروضة من الأصدقاء والمعارف والأعداء عن قضيّة مقاومة “إسرائيل” والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينيّ. لو أنّهم تراجعوا قيد أنملة، لم يكونوا ليواجهوا أيّاً من هذه الأحداث. إذاً، كان ما حدث كله ضريبة تلك المقاومة.
لكن رغم كون النظام معادياً للصهيونيّة، كانت هناك سلوكيّات غير مقبولة في قسم من النظام السائد في الدولة السوريّة، وكانت مرتبطة بالتعامل مع أهالي ذاك البلد، وشكّلت شرخاً بين الحكومة وقسم من الشعب السوري.
هناك جزءٌ من الشعب السوري كان يريد النظام حقّاً، ولكن كانت هناك فئاتٌ أخرى تعارضه في بعض الأمور، وهذا أيضاً لم يبدأ منذ مدة حضور جمهوريّة إيران الإسلاميّة في سوريا.
من جهة أخرى، كان هناك تحدٍّ قديم جدّاً بين حكومة حافظ الأسد وبعض التيارات الفكريّة الحاضرة في العالم الإسلامي، ومنهم الإخوان المسلمون، وكانت توجد بينهم بعض المجادلات.
الجمهوريّة الإسلاميّة أوصت منذ البداية، منذ عهد حافظ الأسد، وسعت باستمرار لدفع الأوضاع هناك نحو التلاحم الشعبي والاجتماعي، وكان سبب ذلك اعتقادها بأنّ أهل أيّ بلد يحدّدون مصيرها، وهذا ما كان حاضراً دائماً في الجمهوريّة الإسلاميّة.
لاحقاً برزت ظاهرة ثالثة هناك، كانت ظهور «داعش»؛ فتنة «داعش». علينا أن نفصل تماماً سلوك جمهوريّة إيران الإسلاميّة تجاه «داعش» عن المدة التي سبقت ظهوره.
نعم، نحن خضنا حرباً حاسمة مع «داعش»، كما قاتلنا «داعش» في سوريا والعراق. اليوم أيضاً، إذا ظهر «داعش» بخصائصه وصفاته السابقة نفسها في أطرافنا، إذ يكون في مقدوره الاعتداء علينا في المستقبل، فإنّنا سنقمعه حتماً فوراً في ذاك المكان، طبعاً مع الالتزام بالشروط التي أسلفتُ ذكرها. لكن ما هي الخصائص التي كانت لدى «داعش» وجعلتنا نتوصّل إلى هذه النتيجة؟
أوّلاً، كان «داعش» تيّاراً صنعته إحدى الأجهزة. نحن كنّا مطّلعين على ذلك ونعلم من أين ومن أيّ سجنٍ حرّروا هؤلاء ومن عمل معهم وإلى أين أخذوهم وكيف صنعوهم ومنحوهم صورة بارزة جدّاً. في البدايات، كان «داعش» يعمل على إبراز صورة معتبرة وبارزة جدّاً لنفسه، وكانوا يسعون إلى تقديم نموذج بديل عن تيار الثورة الإسلاميّة كله. إذاً، لم تكن لدى «داعش» أصالة ذاتيّة في الهويّة.
ثانياً، كان «داعش» فاقداً للأرض، أي إنّ النقطة المهمّة جدّاً كانت أنّ «داعش» لم يكن مرتبطاً بأيّ أرض، أي لم يكن هناك أيّ مكان يجعلنا نقول إنّ هذا البلد ملكٌ لهم وهذه الجغرافيا خاصّة بهم وهم أهل هذه الأرض فنعترف بهم رسميّاً في هذا المكان. لا، هؤلاء كانوا مفتقدين للأرض أساساً، أي إنّنا حيثما كنا نقاتلهم، لم تكن تلك الأرض ملكاً لهم.
ثالثاً، كان هؤلاء يعدّون كلّ مكان أرضاً خاصّة بهم، أي إنّهم كانوا يعدّون أراضي الآخرين ملكاً لهم وسائر البلاد الإسلاميّة ودول المنطقة ملكاً لهم. إذاً، كانوا يعارضون دول المنطقة كافة، ومنها إيران.
رابعاً، كانوا يحملون فكراً تكفيريّاً تجاه الفرق الإسلاميّة كلّها. أساس «داعش» ارتكز على التكفير، ولم يقتصر الأمر على تكفير الشيعة، بل تكفير الجميع إلا أنفسهم.
خامساً، القتل الجماعي للناس. كان «داعش» إرهابيّاً وفقاً للمعايير كلها، أي إنّ الإرهاب كان سلاحه الأساسي، كما إنّ الحال هو كذلك اليوم. لم يكن الإرهاب موجّهاً ضدّ المسؤولين السياسيّين أو العسكريّين، بل كان ضدّ الشعب وضدّ عامّة الناس.
يتذكّر الجميع قضيّة التفجيرات في كرمان؛ حينها نشر «داعش» بياناً قال فيه إنّ المجاهدين الاستشهاديّين نفّذوا عمليّتهم بنجاح! هو من كتب ذلك، ولا يزال عناصره يتابعون حتى اليوم مثل هذه الأعمال.
أجهزتنا الأمنيّة تعتقل باستمرار مختلف المجموعات التي يرسلونها إلى داخل البلاد، وهناك حربٌ دائمة وخفيّة ومستمرّة. أحياناً تُعتَقل عشرون مجموعة منهم في البلاد.
عندما ظهر تيّار «داعش»، لم يعد هناك داعٍ للتأمّل. طبعاً، بعض أولئك المعارضين للحكومة السوريّة ساعدوا على نحوٍ ما على ظهور ذاك التيّار، أو عزّزوا هذا التيّار لاحقاً عبر الانضمام إليه، ونحن أُجبرنا على مواجهتهم والاشتباك معهم. طبعاً، نحن في هذه القضيّة فصلنا منذ البداية بين «داعش» والمعارضين، وبفضل الله، فإنّ «داعش» اجتُثّ من جذوره نتيجة العمليّات المتواصلة والتي تقدّمت متراً تلو المتر، إن كان في العراق أو في سوريا.
أمّا بشأن سائر المعارضين – إذ في قضايا حلب ودمشق والغوطة الشرقية والغوطة الغربيّة ودرعا والسويداء في الجنوب، كانت هذه الفئات المعارضة حاضرة بصورة أساسية –، فإنّ الجمهوريّة الإسلاميّة حاولت التوسط بينهم وبين الحكومة. طبعاً، كنا عندما نُهاجَم في مكانٍ ما، ندافع عن أنفسنا.
في هذه الأماكن التي حضرنا فيها من أجل التصدّي لـ«داعش»، على سبيل المثال، كنا حينها بحاجة إلى مطار حلب أو مسارات مثل أتوستراد حلب – دمشق، وكان لدينا هناك خطّ دفاعي، وكان علينا لو هاجمنا أحدٌ أن ندافع مُجبرين، أو كنا نجبرهم على التراجع بعض الشيء في بعض الأحيان.
لكن لم يكن قرارنا يوماً وإطلاقاً أن نجتثّ هؤلاء من جذورهم، كما فعلنا مع «داعش». حتى عندما كانوا مُحاصَرين وتقرّر أن يُخلوا، وفّرنا لهم الأمن حتى ينتقلوا من مختلف النقاط إلى إدلب.
في حلب، بذل بعض إخواننا أرواحهم حتى تُنقل عائلات هؤلاء المعارضين الذين كان بعضهم في حلب إلى منطقة إدلب هذه. ثمّ في خضمّ الاتفاقات السياسيّة، دعمنا نحن قضيّة أن يكون لهؤلاء مكان خاصّ بهم وأن يستقرّوا فيه وتكون تلك المنطقة منطقة إنهاء للتوتّرات وألّا يتعرّض أحدٌ لهم.
مع انتهاء قضيّة «داعش»، سُلّمت المنطقة إلى الجيش السوري، ولم يعد هناك داعٍ لحضورنا هناك بصورة كاملة. طبعاً، كانت حكومة بشّار الأسد تتعرّض أيضاً لضغوط كبيرة بسبب حضور الإيرانيّين، إن كان من قبل العرب أو الكيان الصهيوني أو أمريكا.
كانوا يمارسون الابتزاز بالقول إنّ إيران سيطرت علي سوريا، ويطلقون أمثال هذا الكلام! حسناً، كانت النتيجة أنّ النسبة الكبيرة من قواتنا عادت من هناك، وبقي جزءٌ منها فقط؛ الجزء الذي كانت تحتاجه المقاومة، أو كان يقدّم أنواع الدعم للجيش السوري أو الحكومة السوريّة.
هناك تحليلات تقول إنّ مختلف المجموعات التي كانت في شمالي غرب سوريا، كان لديها تحرّكات قبل الهجوم الأخير. ألم تقدّم إيران معلومات لسوريا بشأن هذه التحرّكات؟
كلّ واحدة من هذه الجماعات لها جذورٌ مختلفة وآراء متعدّدة تجاه تركيا وسوريا وإيران والشيعة و”إسرائيل”. إذاً، هناك مواقف متباينة لديهم. من هذه الناحية، هم جمعٍ متشتّت، ولكن رغم ذلك، اتّفقوا على تنفيذ مثل هذه الخطوة.
أُطلعت مراراً الحكومة السوريّة على هذه التحرّكات، وهم أنفسهم لم يكونوا يفتقدون إلى القدرات الاستخباريّة الجيّدة، هم أيضاً كان لديهم علمٌ بذلك. لكن كانت هناك نقطتان.
النقطة الأولى كانت أنّ رجال السياسة والجيش السوري لم يكونوا يصدّقون قدرة هؤلاء على تنفيذ خطوة جوهريّة وأساسيّة. ثانياً، كانوا يعتمدون على جيشهم وجهازهم الأمني، أي كانوا يظنّون أن هؤلاء حتى لو نفّذوا أيّ تحرّك، فإنّ الأوضاع ستضطرب بعض الشيء، ولكنّهم سيصدّونهم في نهاية المطاف. لذلك لم تدرك الحكومة السوريّة جدّياً خطر هؤلاء في أيّ وقت من الأوقات. طبعاً، لم يكونوا يتوقّعون وجود مثل هذه الأرضيّة للانهيار في الجيش السوري أيضاً!
في النهاية، انطلقت عمليّات هؤلاء، وقيلَ مجدّداً وعلى نحو متكرّر للجيش السوري إنّك قادرٌ على الوقوف والصمود هنا وسدّ الطريق أمامهم، لأنّنا كنا نعتقد بأنّه حتى لو تقرّر أن يحاوروا هؤلاء أيضاً، ينبغي أن يثبّتوا مكاناً ما – لكن لم تتوافر إرادة القتال والرغبة في المقاومة لدى الجيش السوري، لذلك سقطت مناطق سوريا واحدة تلو الأخرى إلى أن وصلوا إلى دمشق.
كانت لدينا في هذه المدة أيضاً محادثات مع بشار الأسد وعناصرهم في الجيش وكنا نقدم لهم بعض المشورات ونحاول ونسعى إلى تنشيط المسار السياسي. أتت زيارة السيد عراقتشي إلى تركيا ضمن هذا الإطار، وكذلك كانت زيارته إلى الدوحة، وقد حقّقت بعض النجاحات.
كان «بيان الدول الثماني» في رأيي بياناً جيّداً، وقد انضمّت إليه أخيراً خمس دول عربيّة في المنطقة وعبّرت عن مخاوفها وطالبت بالحلّ السياسي، ولكن سرعة الانهيار لم تمنح هذه المساعي أي فرصة.
هناك إبهام كبير لدى الرأي العام داخل البلاد، وهو يتعلّق بغياب المشاركة المباشرة لإيران لصدّ هذا الهجوم. هل تُوصِّل في بلادنا إلى نتيجة مفادها تجنّب التدخل المباشر، أم حدث أمرٌ آخر؟
لم يكن من المقرّر أن تقاتل إيران في يوم من الأيام بدلاً من الجيش السوري، وذلك في مقابل تيّار لا يمثّل تهديداً حاسماً للجمهوريّة الإسلاميّة. إذا كانت هناك قدرة جاهزة أو فرصة وإمكانيّة لنقل القوّات والتجهيزات، ولو لم يحدث الانهيار بهذه السرعة، كنّا سنقف نحن أيضاً، بشرط أن يقف الشعب والجيش السوري معنا، وتجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة السوريّة لم تقدّم إلينا أيّ طلب من هذا القبيل حتى الأيام الأخيرة.
بعض وسائل الإعلام المعاندة تحاول أن توهم بأنّ حضور إيران وتحمّلها الأثمان في سوريا في السابق، لم يكن مفيداً. ما هو رأيكم بشأن هذا الادعاء؟
نحن لسنا نادمين أبداً على الثمن الذي دفعناه. أنا لا أقول هذا الكلام لأطلق شعاراً إعلاميّاً. نحن لسنا نادمين لأنّ حضورنا والثمن الذي دفعناه كان من أجل تحقيق أمننا، وقد حصلنا على المكتسبات التي توقعناها أيضاً.
لو أنّ «داعش» لم ينتهِ في سوريا والعراق، كان علينا اليوم أن نقاتل «داعش» في داخل البلاد مع دفع عشرات أضعاف هذا الثمن. لا أعتقد أنّه يوجد من لا يملك هذا الاعتقاد بأنّ حكومة «داعش» لو تأسست في سوريا والعراق، كنا سنُجبر على أن نقاتلها اليوم داخل بلادنا وداخل حدودنا وعلى الحدود مع العراق.
هم أنفسهم صرّحوا بهذا الأمر وقالوا إنّ هدفنا هو إيران! حسناً، كان الهدف إنهاء «داعش» وإزالته، وقد تحقّق وكان إنجازاً عظيماً جعل مخطّط الأمريكيّين ومشروعهم يذهب أدراج الرياح، واستثماراتهم التي استمرّت لأعوام تبقى دون أيّ نتيجة.
ربّما لا يعرف الإخوة التفاصيل. لقد شكّلوا جيشاً حقيقيّاً! حسب قولهم هم، لقد أسّسوا حكومة في مقابل الثورة الإسلاميّة وبنوا مجتمعاً وظنوا أنّهم أنهوا الأمر. مع مبادرة جمهوريّة إيران الإسلاميّة، انتهى هذا المخطط وكان هذا المنجز وحده كافياً لدفع هذا الثمن.
كما استطعنا في نهاية المطاف تعزيز قوّة فلسطين و«حزب الله» وملء أيديهم بصورة كبيرة، إذ لم يعودوا يحتاجون إلينا. «حزب الله» اليوم مجموعة مستقلّة تماماً وتعتمد على ذاتها.
بشأن غزّة، أنتم تلاحظون أنّهم يُصنّعون داخل الأنفاق القذائف والصواريخ بأنفسهم. لا شكّ في أنّ «حزب الله» الذي يملك أرضاً أوسع، يملك قوّة أكبر من هذه الناحية، وقد أصبح أكثر تجهيزاً. تلاحظون اليوم أيّ ترحيبٍ يحدث بـ«حزب الله» في لبنان، رغم هذا الدمار كله! النّاس الذين تلقّوا في معيشتهم ضربات قاسية، جميعهم يعودون تحت رايات «حزب الله».
هذا من بركات الثورة الإسلاميّة وعمقها الثقافي والإستراتيجي. «حزب الله» لديه مثل هذا الحال في لبنان. لا يستطيع أحدٌ إنهاء «حماس» و«الجهاد» و«حزب الله»، ولا يستطيع أحدٌ إنهاء «أنصار الله».
هؤلاء هم الشعب نفسه، وقد تجهّزوا ونضجوا وباتوا أصحاب تقنيّات ومعرفة تخوّلهم صناعة التجهيزات التي يحتاجونها من أجل الدفاع عن أنفسهم.
وسط الظروف الراهنة، يبدو تقديم الدعم إلى المقاومة أصعب من السابق، أليس الأمر كذلك؟
نعم، سوف تصبح أصعب. طبعاً، في مراحل متعدّدة، أصبح عملنا أصعب، وفي بعض المراحل، كان أسهل. هذه قضيّة طبيعيّة، وهذا ما كان الحال عليه منذ البداية وحتى اليوم.
لكن النقطة الأولى هي أنّ «حزب الله» و«حماس» و«الجهاد الإسلامي» ليسوا معتمدين إلى حدٍّ كبير على دعمنا المباشر والملموس. لاحظوا! هل كنا على تواصل مباشر طوال هذه المدة مع «حماس» في غزّة؟
لم يكن الحال كذلك يوماً، ودائماً ما كانت الحواجز الإسرائيليّة وحلفاؤهم مسيطرين على الأوضاع. هل لدينا تواصل برّي مباشر مع اليمن؟ المسار البحري محاصرٌ أيضاً. لكن أهالي اليمن أنفسهم يظهرون يومياً شيئاً جديداً ويصنعون صواريخ يصل مداها إلى ألف كيلومتر! هذا من العجائب حقّاً. نحن أنفسنا قضينا مدة طويلة وطال بنا الأمر مدداً طويلة حتى أصبحنا قادرين على صناعة الصواريخ، ولكن اليمنيّين بلغوا ما بلغوه الآن في مدة زمنيّة قصيرة.
على أيّ حال، ليست المقاومة معتمدة علينا من أجل الاستمرار في حياتها، ولا بدّ من القول إنّ علاقة إيران بالمقاومة و«حزب الله» لن تنقطع يوماً.
من الإبهامات المهمّة، وضع إيران في المنطقة. هذه الإبهامات التي تصل في بعض الأحيان إلى حدّ اتهام الجمهوريّة الإسلاميّة أيضاً، ويُحلّل وضع إيران في الأوضاع الراهنة للمنطقة بأنّها تَضعف وتتراجع. ما هو تحليلكم لوضع إيران الراهن في المنطقة؟
هذه هي الحرب النفسيّة للعدو، ودأب الشيطان هو الترهيب والتخويف: الشَّیطانُ یعِدُکُمُ الفَقرَ وَیأمُرُکُم بِالفَحشاء. إستراتيجيّة “إسرائيل” هي الإيهام بالضعف والاستحقار.
لكننا للأسف نجد بعض الأشخاص داخل البلاد أيضاً يشاركون في الحرب النفسيّة للعدو، أي إنّهم دون أن يلتفتوا، يكرّرون العمل الذي تودّ “إسرائيل” إنجازه، أي الإيهام بالضعف، وهذه خدمةٌ لتحقيق إستراتيجيّة العدو.
بعض الأشخاص أيضاً يحملون نوايا تخريبيّة وبعضهم يطرحون الأسئلة لتحقيق غايات محدّدة. على سبيل المثال، يسألون متى تُنفّذ عمليّة «الوعد الصادق ثلاثة»؟ هل ستضربون اليوم أو غداً؟ حسناً، القضيّة واضحة. هذا الموضوع له منطق عسكريّ، ومتى ما استدعت الحاجة وكان ذلك مناسباً لنا، ومتى ما كانت الضربة مؤلمة أكثر للعدو، سنوجّهها، ومتى ما كانت الضربة تخدم مصالحنا القوميّة، سوف نوجّهها. لا يمكن، ولا ينبغي أيضاً، تنفيذ العمليّات انطلاقاً من المشاعر.
في رأيي، علينا أن نكون اليوم في ساحة الحرب النفسيّة والإعلاميّة في موضع الهجوم بدل الدفاع. ثانياً، من الذي هُزم من الناحية الإستراتيجيّة؟ انظروا كيف هو وضع الكيان الصهيوني في هذه الأيام الأربعمئة أو الخمسمئة بعد «طوفان الأقصى».
“إسرائيل” التي هي حكومة مزيّفة، وكانت تتظاهر بكونها رسميّة في العالم، أصبحت اليوم كياناً محتلّاً ومبيداً للأجيال ونظام فصل عنصري يُلاحَق رئيس وزرائه. في المقابل، عُرف شعب فلسطين بأنّهم السكان الأصليّون لهذه الأرض والنهضة التحرريّة التي تكافح الاحتلال. إنّ الرأي العام العالمي، وكذلك الكثير من الأجهزة الرسميّة، أُجبروا على الدفاع عن أنّ فلسطين للفلسطينيّين وأنّ “إسرائيل” هي التي مارست الاحتلال على مدى سبعين عاماً.
واقع الأمر هو أنّ “إسرائيل” اليوم قد ضاقت ذرعاً، فهي رغم هذه الخطوات كلّها التي أقدمت عليها، لا تملك الأمن ولا الشرعيّة، وقد زادت خلافاتها بشدّة، وهي تعاني من أوضاع سيّئة من الناحية الاقتصاديّة. بعض الغربيّين يقولون إنّ أطفال غزّة ولبنان سيصبحون إما يحيى السنوار أو السيد حسن نصر الله. لذلك، إنّ الحركة العامّة هي حركة انتصار جبهة المقاومة والثورة الإسلاميّة، وهي حركة تعاظم قوّة الثورة الإٍسلاميّة وضعف “إسرائيل” وحقارتها.
مع هذه التفاسير التي قدمتموها بشأن جبهة المقاومة، نتوصل إلى نتيجة مفادها أن اعتماد الجمهوريّة الإسلاميّة بصورة أساسيية هو على تقوية الناس والعالم الإسلاميّ والمقاومة في المواجهة مع الكيان الصهيوني، لا على المواجهة العسكريّة فقط.
نعم، تماماً. يجب أن يمتلك الشعب الفلسطيني القدرة على الدفاع عن نفسه، ويجب أن يكون قادراً على صدّ الهجوم الذي يُشنّ عليه. “إسرائيل” لديها على نحو ذاتي وماهوي الجهوزيّة التامة والكافية للإنهيار.
لا يملك الكيان الصهيوني القدرة على البقاء لأنّه كيانٌ مزيّف. أحداث العام الفائت تثبت جيّداً هذا المسار. “إسرائيل” انهارت في أذهان الشعوب كلّها حول العالم، وقد تبدّل الرأي العام العالمي.
لا يوجد اليوم شخصٌ لا يرفض “إسرائيل”، ولا يوجد في العالم من لا يؤيد انعدام شرعيّة “إسرائيل” وأحقيّة فلسطين. “إسرائيل” فقدت شرعيّتها ومقبوليّتها المزيّفة، وقد برز واقعها الاحتلالي وإبادتها الأجيال ونظام فصلها العنصري. هذا هو حال المسار العام على مستوى العالم.