بيروت.. عزة وکرامة لبنان (الجزء السادس عشر)

خاص الوفاق : تنشر ”الوفاق” على عدة حلقات مشاهداتها الخاصة من بيروت كتبها لها الدكتور محمد علي صنوبري رئيس تحرير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية، وفيما يلي الجزء الجزء السادس عشر من هذه السلسلة:

2024-12-29

د.محمد علي صنوبري

 

لقد جئت إلى لبنان عدة مرات من قبل، لكن هذه المرة أردت أن أتعامل مع الناس من مختلف الفئات وأتحدث معهم أكثر، كان هدفي هو دراسة علم الاجتماع السياسي في لبنان خلال أوقات الأزمات والحروب.

 

بدأت عملي منذ لحظة وصولي إلى المطار، وصلت إلى بوابة الجمارك، وكان يجب أن أبرز جواز سفري. وكان هناك شاب جالس، قال لي: من فضلك، أعطني جواز السفر، فأعطيته الجواز، فقرأ عليه جملة “الجمهورية الإسلامية الإيرانية”.

 

فسألني: “لماذا جئت إلى لبنان في هذه الأيام؟” فأجبت: هل يبدو الأمر غير واضحاً؟ جئت لأكون بجانب شعبكم.

 

قال: هل لديك أصدقاء ومعارف هنا؟ فأجبت: أكثر من أي مكان آخر!

 

تفاجأ قليلاً من إجابتي، فوقف وسأل مرة أخرى بشكل أكثر وضوحاً. فأبرزت له التأشيرة وتصريح دخولي. فقال: “انتظر قليلاً.” وبعد التنسيق والاتصال الذي أجراه مدير إحدى المؤسسات القانونية المشهورة مع رئيس المطار وتقديم دعوته، تمكنا من عبور بوابة الجمارك ودخلنا قاعة الوصول.

 

كان هناك شاب آخر قال: تعال يا أخي، سأضع حقائبك على العربة.

 

وكان لدي عدة حقائب مع كاميرا ومعدات أخرى، لذا اضطررت لمرافقته لأساعده وأتحدث معه.

 

فسألت الشاب: هل هذه وظيفتك الدائمة؟

 

قال: لا، أنا من الجنوب، وقد جئت إلى المطار منذ أسبوعين لكسب لقمة العيش.

 

وأضاف: أنا مضطر للقيام بهذا العمل، وظيفتي وبيتي وكل حياتي دُمّرت في قرية من قرى الجنوب.

 

سألت: هل هذا أحبطك وأثر على حياتك أم أنك لا يزال لديك أمل وتتعايش مع هذه الأمور؟

 

قال: إننا نتعايش مع كل ذلك، لكن استشهاد أبطالنا ورجالنا أشعرنا بالألم، والسيد الشهيد حسن نصرالله كان عزتنا وفخرنا جميعاً.

 

خرجنا من قاعة المطار، هناك كانت تنتظرنا مسؤولة منظمة حقوق الإنسان التي أرسلت لنا الدعوة ونسقت مع مسؤول المطار لوصولنا إلى لبنان.

 

قلت لها: آسف لأن هذا الأمر كان خطيراً عليك، لماذا جئت شخصياً إلى المطار؟

 

قالت: “لأنكم لن تتمكنوا من العثور على سيارة للإيجار هنا، فالمكان بالمطار مغلق تماماً ولا يُسمح للسيارات بالمرور.”

 

لقد كانت الأستاذة مي صبحي الخنساء، المحامية اللبنانية الشهيرة التي لها تاريخ مشرّف في دعم محور المقاومة. وقصة الأستاذة الخنساء هي قصة طويلة ومميزة بحد ذاتها.

 

في محيط المطار، كنا نرى قوات اليونيفيل التي كانت تتواجد وتستعد.

 

عند مدخل الفندق ودعنا الأستاذة، وفي الليل ذهبت مع صديقي للتنزه وتناول العشاء والتحدث. ذهبنا إلى الروشة، لقد كانت مدينة مظلمة وصامتة، وأحياناً كنا نسمع أصوات الطائرات المسيرة والانفجارات…

 

عندما وصلنا إلى الروشة، رأينا على جانب الطريق شباباً يجلسون كئيبين يدخنون النرجيلة، ويتصفحون هواتفهم المحمولة.

 

سألتهم: ما الأخبار؟ أيها الشباب، هل تسمحون لي بالجلوس معكم؟ وافقوا، ابتسموا، وأفسحوا لي مكاناً وأعطوني النرجيلة وقالوا: تفضل أخي.

 

فسألت: هل هذا هو عملكم كل ليلة؟

 

قالوا: ليس لدينا شيء نفعله، الحزن يملأ قلوبنا.

 

قلت: حسناً، الإنسان يعيش على الأمل، فالمقاومة موجودة والدفاع مستمر. صواريخ المقاومة دفعت مليون ونصف المليون صهيوني من شمال فلسطين المحتلة، واثنين مليون شخص هاجروا بشكل عكسي؛ فيجب ألا نفقد الأمل.

 

قلت: لكن هذا لا يعني أنه يجب أن نفقد الأمل، يجب أن نكون متفائلين بالمستقبل. أنتم أحياء، نشطون، وفعالون، أبهرتم العالم بكم، وافتخر الشباب بتضحياتكم على طريق غزة.

 

عند العودة من الروشة، لم أتمكن من السير إلى الفندق لأنني كنت متعباً، لذا اضطررت لركوب سيارة أجرة. فركبنا، وكان السائق يستمع إلى أغنية، فسألت: ما هذه الأغنية؟ قال: إنها أغنية قديمة غنتها مطربة تدعى فيروز بعنوان “من قلبي سلام لبيروت…” كان السائق يستمع ويبكي، فسألت: لماذا تبكي؟

 

قال: لقد استهدفت قنابل القصف الأمريكي الجبانة رمز العزة والكرامة لنا ، ليتنا جميعاً كنا موتى وهو حي.

 

فتأملت بليالي بيروت المظلمة، رائحة الدخان والنار وصوت الطائرات المسيرة الصهيونية وبكاء السائق العجوز.

 

نعم، لن أنسى تلك الليلة في بيروت ماحييت.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص