د. محمد العبادي
إذا عرفنا أنّ عدد المشتركين في الفيس بوك والواتساب والتليغرام والإنستغرام وغيره يصل إلى مليارات الأشخاص، فهذا يعني يومياً يتم تبادل مليارات الرسائل والمحادثات والمقاطع والأفلام القصيرة وما إلى ذلك، وكل يبحث عن ضالّته في الفضاء الإفتراضي الفسيح.
لا يظنّ أحداً من الناس أنّ تلك المنشورات والمستندات والمقاطع وصلت إلينا عبثاً ومن دون هدف منشود. نعم، توجد بعض المنشورات والمقاطع طافية لا تملك هدفاً أو رسالة وهي تسبح في فضاء محدود؛ لكن الهدف الأبعد هو السيطرة على النفوس والعقول وإلهائها وترويضها وتخديرها، ومن ثم يتسنى السيطرة على البلدان وخيراتها.
في لهو الحديث الذي انشغلنا فيه قد نتفق وقد نختلف في مفردة من المفردات أو في موضوع من الموضوعات المنشورة سواء بمستند ومصدر موثوق أو غير موثوق، ونضع تعليقاتنا في بعض الأحيان أو في كثير من الأحيان على المنشور سلباً أو إيجاباً أو قد نختار السكوت أو الإعراض عنه.
إنّها سنّة الحياة أن تختلف آرائنا ومشاربنا ومآربنا وأذواقنا وبيئاتنا وثقافتنا، بل إنّها علامة وآية من آيات الله أن تختلف صورنا وأصواتنا وألواننا: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ” (الرُّوم/ 22).
يقول أحدهم: يومياً أتلقى مئات المنشورات التي يرسلها الأصدقاء بشكل شخصي أو من الأصدقاء في الكروبات المتنوعة أو من المجموعات العشوائية وغير ذلك .
بعض المنشورات مقصودة ومغرضة ومستفزة، وبعضها تلك المنشورات غير مقصودة لكنها استفزازية، وبعضها مقصودة ومفيدة وتنويرية، وبعضها طرائفية وظريفة، وهناك منشورات خالية من أي مضمون مفيد، و …
إنّ ردة فعل الأصدقاء تختلف من شخص لآخر شدة وضعفاً، أو قبولاً ورفضاً.
علينا أولاً عندما نستقبل تلك المعلومات نستقبلها للإطلاع، ومن ثم إمّا نأخذ الصحيح منها بعد تمحيصه أو نرفض السقيم منها بعد تدقيقه وغربلته.
أنت كمتلقي لست مسؤولاً عن صدق الخبر من كذبه؛ لكنّك مسؤولاً عن التحقق من صدق الأخبار أو كذبها في دائرة بعض المعلومات وليس كل المعلومات التي تصل إليك، وربما إهمال بعض المعلومات أولى من الإنشغال بها .
بعض الناس يذهب بها عريضة، ويكبر المعلومات الصغيرة والحقيرة وتنتهبه الإنفعالات ويفرغها في لغة هابطة:
وتكبر في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
وفي مواقع التواصل أو التناحر الاجتماعي والثقافي والسياسي رأيت بعض الأصدقاء متزنون قد تزينوا بالتزام الهدوء والإنضباط عند التعليق والتعقيب على مختلف الموضوعات.
يقول أحد الأصدقاء: لقد تعلّمت درساً من الحياة، أننا قد نختلف مع بعضنا في كثير من الموضوعات، ولا يحق لي ولا لغيري أن يفرض قناعاته على الآخرين، أو يتهجم عليهم ويتهمهم أو يلغيهم لمجرد الاختلاف في الرأي أو الدين أو المذهب أو القومية أو العرق.
لنذهب إلى التاريخ الإسلامي حيث كان المسلمون يعرضون بضاعتهم ومعتقداتهم وآرائهم على الملأ العام والخاص وبعد ذلك “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”، حيث كتب العلامة الحلي أو ابن المطهر الحلي (المتوفى ٧٢٦ق) كتاباً أسماه “منهاج الكرامة” وهو كتاب جامع في معتقدات الشيعة .
وردّ عليه ابن تيمية (المتوفى ٧٢٨ق) ردّاً عنيفاً واستعمل ألفاظاً هابطة وهجومية، ويكفي أن نشير إلى مفردة أو مفردتين في نعته للعلامة بـ”ابن المنجس”! أو وصفه لكتابه “منهاج الندامة”! ويُروى أنّ العلامة الحلي أرسل له هذه الأبيات :
لو كنت تعلم كل ما علم الورى
طرّاً لكنت صديق كل العالم
لكن جهلت فقلت إنّ جميع مَنْ
يهوى خلاف هواك ليس بعالم
ما أروع ذلك الحديث الذي يقول: “تكلّموا تعرفوا، فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه”.. نعم، تعرف هُويّة الإنسان التربوية والأخلاقية من خلال كلامه.
عندما يتحدّث أحدهم يمكن تشخيص عائلته التي احتضنته والبيئة التي عاش فيها والتعاليم التي تلقاها؛ وبهذا الصدد ينقل أحد الأساتذة في إحدى الجامعات التي تضم طلاباً من دول وقوميات مختلفة؛ يقول: في مرّة بعد أن أعطيت نتائج الإمتحانات؛ جائني بعض الطلاب وكان أسلوبهم في الكلام يختلف من شخص لآخر، لأنهم ينتمون إلى بلدان وبيئات ثقافية مختلفة يقول: جائني طالب أفغاني وقال -أنقل بالمعنى وليس بالنص-: “لماذا أعطيتني هذه الدرجة؟ إنّ إجابتي تستحق درجة أكثر من هذه الدرجة”.
وجائني طالب آخر من تركيا، وقال: “أستاذي العزيز يمكن حصل إشتباه في إعطائي هذه الدرجة”.
كلاهما قد اعترض على نتيجة الإمتحان؛ لكن الفرق بينهما واضح في اللغة والأسلوب؛ أحدهما استخدم لغة مباشر وحادة وأسلوب يعكس طبيعة الأسرة والبيئة الثقافية وتضاريسها المعقدة، والثاني لغته هادئة وأسلوبه ينطوي على احترام واتزان وطباعه معتدلة، وهو يعكس طبيعة العائلة والحياة المنفتحة .
على كل حال؛ فإننا جميعاً بحاجة إلى الكلمة الهادئة والهادية القوية، لأنها تؤسس للاحترام والمودة، وتجمع الناس وتحترم قناعاتهم وخلفياتهم المذهبية والقومية.