في رحاب ذكرى الشهيدين العزيزين الحاج قاسم وأبو مهدي المهندس

خاص الوفاق : كان الشهيد الحاج قاسم محبوباً من الصغير قبل الكبير، من العسكري والمجاهد والمسؤول، يتحدث مع الجميع ويحاور الجميع، وقد عبّر عن الشهيد أميرعباللهيان بانه كان سياساً محنكاً وقائداً حكيماً، يجمع كل الصفات القيادية، وبالمقابل كان رحيماً وعطوفاً ومحباً

2025-01-01

د. نبيه أحمد  أكاديمي وباحث لبناني

 

لم أكن أتصور نفسي يوماً أكتب حول العظماء، فمن أنا لتستطيع كلماتي أن تظهر حجم عطائهم وتضحياتهم، فهؤلاء قد تجاوزت أفعالهم كل حدود الزمن، والصدقة الجارية التي قدموها لهذه الامة، تبقى إمتداداتها مع الاجيال حتى ظهور القائم المهدي (عج).

 

كثيرون قدموا أنفسهم على مذبح العشق الإلهي، وعبروا سبل العرفان على دروب التضحية، فوصلوا الى الحياة الحقيقية، وجاوروا من تتوق القلوب والأرواح للقياهم، وهم محمد وآل محمد(عليهم السلام).

 

في ذكرى شهادة القائدين الكبيرين، رفيقي درب الجهاد في مواجهة كفّار العصر الحديث، ساحاول مقاربة شخصيتيهما ولو ببعض جوانبها، مع الإعتذار المسبق على التقصير في إيفائهما حقهما عليّ وعلى كل هذه الامة. إنها مساهمة درويش نقدمها للقرّاء، علّنا ننال شفاعتيهما وكل شهداء الأمة ومن إرتقوا على طريق القدس.

 

الشهيد الحاج قاسم سليماني

 

عبّر سماحة السيد الإمام علي الخامنئي في حديثه عن الشهيد الحاج قاسم سليماني بقوله: «نشكر الله على إهدائه الأجر الدنيوي للشهيد سليماني – هذا الشخص العظيم والشخصية البارزة – على مرأى من أعيننا يوميًا. إن ما تلاحظونه من امتداد وانتشار لاسمه وذكراه هو الأجر الدنيوي لهذا الإنسان العظيم، إذ لا يستطيع أمثالنا أبدًا تصور أجره الأخروي، وليس في مقدورنا إدراك ماهيته. هذا أجره الدنيوي. منذ اليوم الذي استُشهد فيه حتى يومنا هذا، أعتقد أن اسم الشهيد سليماني وذكراه وخصوصياته تنتشر بين الناس أضعاف ما كانت في زمن حياته».

 

لو تأملنا قليلاً في كلام القائد حول شخصية الشهيد الحاج قاسم، لوجدنا أنها تفتح الباب أمام العديد من القيم والفضائل العميقة، وسنحاول إستخراج بعض هذه القيم للحديث حول الجوانب القيادية والإجتماعية للشهيد العزيز.

 

 الجوانب القيادية والاجتماعية :

 

– الشجاعة وحسن التدبير: كان الشهيد الحاج قاسم سليماني شجاعًا وحكيماً في نفس الوقت. لم يكن فقط شجاعًا في الميدان العسكري، بل كان أيضًا يمتلك القدرة اللازمة لاتخاذ القرارات الصائبة في الأوقات الحرجة، لم يكن ليقف خلف الخطوط ويعطي الأوامر، بل كان دائماً في طليعة القوات، ولكم طلب منه الاخوة وبرجاء ألا يتقدم، كان يرفض ذلك لأنه يدرك تماماً أن رؤية المجاهدين للقائد في الطليعة، كفيلة بجعلهم مقدامين مضحين حتى أبعد الحدود.

 

– الإخلاص: كانت سمة الإخلاص هي عنوان عمله، فالإخلاص لله وحده هو هدفه الدائم، لا ينظر للعمل الا من خلال منظار العلاقة مع الله، وقد عبدّ دربه وعلاقته بالله بحجار الإخلاص له وحده، بالرغم من ان الدنيا قد أقبلت عليه بكل مباهجها، لكنه طلقها غير مكترث لها.

 

– الروحانية: غريبة تلك العلاقة التي جمعته بالشهيد يوسف اللهي، وقد كان معروفاً عنه أنه من العرفاء في الجبهة، ولكن روحانية سليماني قد تخطت كل الحدود الدنيوية، فهو الذاكر الدائم لمصيبة السيدة الزهراء(س) وقد كان يحرص على مجلسها حتى لو كان في أقاصي الدنيا، ومن رافق الشهيد الحاج قاسم يعرف قيمة الأذكار الدائمة في حياته، قراءة القرآن، صلاة الليل…

 

– الإنسانية والتضحية: كان الشهيد سليماني يتمتع بروح التضحية والإنسانية، حيث كان يعمل من أجل الجميع دون تمييز بين الشعوب، فهو الذي تطوع لعمليات إنقاذ لطيارين إيرانيين، روس.. وقد كان في طليعة من خطط لفك حصار كفريا والفوعة ونبل والزهراء وغيرها من المناطق.. كانت إنسانيته عابرة للحدود المكانية، فأينما وجد مستضعف في العالم، كان يسعى لرفع الظلم عنه…

 

– مراعاة الحدود الشّرعية في ميدان الحرب: كان دقيقاً جدّاً في مراعاة الحدود الشرعية. ومراعاة الحدود الشرعية في الميدان قد تكون ميزة يفتقدها الكثيرون. لم يكن يقبل بالإسراف في استخدام الذخيرة دون سبب، الإسراف أو التقصير في تقديم الطعام للمجاهدين، فمرة أعد له طعام مختلف عما يقدم للمجاهدين، وعندما عرف بذلك، رفض تناوله، وخرج ليتناول من طعام المجاهدين.

 

– علاقته بحزب الله وحركات المقاومة في العالم: كان للحاج قاسم سليماني علاقة وثيقة مع حزب الله في لبنان، وقد ربطته علاقة وثيقة جداً بالسيد الشهيد حسن نصرالله، حيث قدم الدعم والمشورة العسكرية والسياسية لتعزيز قدرات المقاومة في مواجهة التحديات، كما كان على تواصل وثيق مع حركات المقاومة في العراق واليمن وغيرها…وبصماته واضحة جداً في تعزيزها حتى بالنسبة للمقاومة في فلسطين المحتلة وإيصال الدعم العسكري لها.

 

– تربية مدرسة الإمام الخميني (قدس) :تربى الشهيد الحاج قاسم على قيم ومبادىء الإمام الخميني(قدس)، فهو الذي التحق بالجبهة الإيرانية ضد كل قوى الإستكبار ومنها الشاه وصدام، وكانت الميادين تشهد على بطولته، حتى أنه كان مثالاً للجندي المخلص للولاية وبالأخص للإمام الخميني في حينها، وحالياً للسيد القائد الإمام الخامنئي.

 

– الشّوق إلى الشّهادة: كل قائد عظيماً، ومجاهداً مخلصاً يتوق ليتوج جهاده ببذل النفس في سبيل هذا القرب من الله، وقد كان الشهيد الحاج قاسم ممن يبكون في دعائهم ليرزق بالشهادة. لطالما تمناها، وعمل من أجل الوصول إليها، حتى كانت وساماً له يقابل به أهل البيت (عليهم السلام)، وما وصل اليه الحاج قاسم خلال حياته ومسيرته الجهادية المليئة بالجراحات، هو درب عبدّه للوصول الى أسمى القتل في سبيل الله، حتى نال مراده.

 

– روحيّة الشباب: كان الشهيد في السيتينات من عمره خلال فترة تواجده في الجبهات الأخيرة، لكنه كان يعمل ليلاً نهاراً، لا يرتاح، ولا ينام، وعندما سئل عن ذلك، أجاب بانني عندما أفارق الحياة سأنام كثيراً في لحدي، فحري بي الآن أن أستفيد من لحظات حياتي للتقرب من الله.

 

كان الشهيد الحاج قاسم محبوباً من الصغير قبل الكبير، من العسكري والمجاهد والمسؤول، يتحدث مع الجميع ويحاور الجميع، وقد عبّر عن الشهيد أميرعباللهيان بانه كان سياساً محنكاً وقائداً حكيماً، يجمع كل الصفات القيادية، وبالمقابل كان رحيماً وعطوفاً ومحباً.

 

أختم حديثي حول الشهيد الحاج قاسم، وهو حديث لا ينتهي، بما قاله عنه سيد شهداء الأمة السيد حسن نصرالله: «يُعدّ الشهيد سليماني رمزًا للمقاومة الإسلامية، وقد ترك أثرًا عميقًا في نفوس محبيه، وستبقى ذكراه خالدة في وجدانهم. كان رجلًا استثنائيًا، فقد جمع بين الصفات الأخلاقية الرفيعة والصفات القيادية الفذة، وكان نموذجًا يُحتذى به في الجهاد والتضحية».

 

الشهید الحاج أبومهدي المهندس

 

 

إرتبط إسم الشهيد أبو مهدي المهندس بالشهيد الحاج قاسم، منذ بدء الهجوم الداعشي الإرهابي على العراق، فقلما كنا نراه دون الحاج قاسم، في الجبهات، على خطوط التماس، في المقامات الدينية، دائماً متلازمين، كموسى وأخيه هارون، أو كملازمة سلمان ومالك للإمام علي(ع)، حتى منّ الله عليهما بالشهادة والعروج الى الفردوس الأعلى معاً، شيّعا معاً، حتى أصبحا قدوة ومثالاً في الأخوة والمحبة والعشق المحمدي الأصيل.

 

كان الشهيد أبو مهدي المهندس أحد أبرز القادة العسكريين والسياسيين في العراق، وكان يشغل منصب نائب قائد هيئة الحشد الشعبي في العراق. قاد العديد من العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش الارهابي وأصبح شخصية محورية في السياسة العراقية، خاصة في علاقاته مع إيران وحركات المقاومة. لعب دورًا بارزًا في تشكيل الحشد الشعبي وفي الحرب ضد الإرهاب، وكان له تأثير كبير في الساحة العراقية والإقليمية.

 

للإضاءة على شخصيته، سنحاول أن نستعرض بعضاً من الصفات القيادية والاجتماعية مع الإعتذار مجدداً عن التقصير، لأن هذا القائد العظيم يحتاج لكتب ومجلدات ولن تفيه حق جهاده وتضحيته الكبيرة للامة، ولكنها كلمات متواضعة من الفقير والمحتاج الى شفاعته يوم القيامة:

 

– الخبرة العسكرية الواسعة: كان أبو مهدي المهندس ضابطًا عسكريًا ذا خبرة عميقة في مجالات متعددة من الحروب. عمل في فترات مختلفة مع العديد من المجموعات المسلحة في العراق، بما في ذلك القوات العراقية المدعومة من إيران. كان قائدًا ميدانيًا بارعًا، شارك في العديد من العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش، وحقق ملاحم أسطورية عليها مما جعله محطّ أنظار الجميع.

 

– القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة: خلال فترة القتال ضد داعش، أظهر المهندس قدرة كبيرة على اتخاذ قرارات استراتيجية في اللحظات الصعبة. كان معروفًا بقدرته على التعامل مع المواقف المعقدة واتخاذ قرارات سريعة وفعّالة من أجل تحقيق الأهداف العسكرية.

 

– العمل الجماعي: كان يتمتع بقدرة على التنسيق بين مختلف الفصائل المسلحة، مما ساعد في تشكيل «الحشد الشعبي» كقوة موحدة لمكافحة الإرهاب. كان يضع دائمًا مصلحة العراق في المقام الأول ويعمل على تعزيز التعاون بين القوات المختلفة.

 

– القدرة على التحفيز والإلهام:  كان قائدًا ذا قدرة كبيرة على تحفيز أتباعه وإلهامهم ويتمتع بشخصية قوية وجاذبية جعلت العديد من المقاتلين يثقون فيه ويعتبرونه نموذجًا للقائد الشجاع والمخلص. كان يولي اهتمامًا كبيرًا للروح المعنوية بين المقاتلين، وكان يحرص على تحفيزهم وتشجيعهم على الاستمرار في القتال رغم الظروف الصعبة. كان له دور مهم في رفع معنويات المقاتلين في جبهات القتال.

 

– المرونة في التعامل مع الأزمات: كان الشهید أبو مهدي المهندس قائدًا مرنًا في التعامل مع الأزمات، والقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة. في الحرب ضد داعش، كانت الظروف تتغير بسرعة، وكان لديه القدرة على تعديل الخطط والقرارات بما يتناسب مع التطورات الميدانية. كان أيضًا ملمًا بتحليل الوضع السياسي والعسكري بشكل دقيق، ويعرف كيفية الاستفادة من الفرص المتاحة في ظل التحديات.

 

– الاستراتيجية والدهاء السياسي:  كان الدهاء السياسي جزءًا كبيرًا من شخصيته القيادية ويتمتع بفهم عميق للوضع السياسي الإقليمي والدولي، وكان قادرًا على استخدام شبكة العلاقات الإقليمية والدولية لصالح القضايا التي كان يدافع عنها. كانت علاقته مع إيران محورية في تشكيل تحالفات مع قوى إقليمية ودولية مختلفة. كان يوازن بين القضايا المحلية والعلاقات الدولية لتحقيق أهدافه.

 

– العدالة والإنصاف: كان الشهید المهندس معروفًا بإيمانه بـ العدالة والإنصاف ويسعى إلى تحقيق العدالة للمجتمع العراقي بشكل عام، خاصة فيما يتعلق بمحاربة الفساد وتحقيق الاستقرار في البلاد. كان يعتبر في نظر أنصاره رمزًا للنضال ضد الظلم، سواء كان الظلم الداخلي أو الخارجي.

 

– العلاقات الاجتماعية والقدرة على بناء الشبكات: كان الشهید أبو مهدي المهندس شخصًا اجتماعيًا ولديه قدرة فائقة على بناء علاقات قوية مع مختلف الشخصيات والفصائل. كانت علاقاته مع العديد من القادة العراقيين والإقليميين قوية، وساعدت هذه العلاقات في تعزيز مكانته السياسية والعسكرية. كان يحظى باحترام كبير من قبل العديد من القادة العسكريين والسياسيين في العراق ومن خارجها، قادرًا على التنسيق بين مختلف الفصائل والجماعات المسلحة التي تعمل في العراق، مما جعله لاعبًا رئيسيًا في السياسة العراقية.

 

– التواضع والصدق: على الرغم من مكانته القيادية الكبيرة، كان الشهید أبو مهدي المهندس معروفًا بتواضعه وابتعاده عن الأضواء. كان يفضل العمل خلف الكواليس، و لا يسعى للظهور الإعلامي.

كان يتمتع بسمعة جيدة بين أتباعه لصدقه في أقواله وأفعاله. كان يركز على العمل الميداني والعمليات العسكرية أكثر من السعي وراء الشهرة أو المكاسب الشخصية.

 

– روحانيته العالية وشوقه للشهادة: من رافق الشهید الحاج أبو مهدي، يعرف كم كان شديداً على الظالمين، ولكنه كان يتمتع بروح شفافة كفراشة تحلق حول الشمعة، كان يسعى للقرب من الله في كل عمل يقوم به، حتى أنه لا يتأخر أبداً عن زيارة العتبات المقدسة، للتزود المعنوي في مواجهة عظم المسؤوليات والتحديات التي أنيطت به، كما كان يدعو ويطلب الشهادة دائماً ويتوسل ذلك في كل المناسبات.

 

كان الشهید الحاج أبو مهدي المهندس، قائداً عظيماً، عابداً زاهداً ، متواضعاً لله وللعباد، لم يعرف عنه التكلم بسوء عن أحد، او إهانة أحد، كان محبوباً من الجميع، حتى أنه كان مرشحاً لتولي منصب كبير بعد الحرب مع داعش، لكنه كان يفضل التواجد مع المجاهدين، حتى نال الشهادة التي تمناها بجوار صديق جهاده وأخيه، الشهید الحاج قاسم سليماني، شهيدين على يد أسوء وأظلم خلق الله، وهي شهادة قلّ نظيراً تواسي الإمام الحسين(ع).

 

لا ينتهي الحديث حول هذين العظيمين، فكيف للكوب أن يحتوي كل مياه المطر، وكيف لحزمة النور ألا تخرق ظلمات الوهم لتنير دروب الحقيقة، هنيئاً للشهيدين العزيزين، حياتهما، كفاحهما في وجه أرذل خلق الله، قتلة الأنبياء والمستضعفين، هنيئاً لهما تلك المنارات التي جعلوها لنا نبراساً للحقيقة، ولتلك القيم التي حملونا إياها، بأن القتال في سبيل الله هو أعظم القتال، وأن أميركا ومعها كل دول الإستكبار ستزول من الوجود، أن الصهاينة هي كيان سرطاني مؤقت لن يبقى على وجه الكرة الأرضية بشهادة المخلصين وكفاحهم، وبأن كل ما يحصل هو «يقيناً كله خير»، لأن الوعد الإلهي سيتحقق لا محالة، ولن يبق للظلم من وجود، وستكون المقاومة هي السلطة الأقوى والسيف المسلط على رقاب الظالمين.

 

السلام على الشهیدین الحاج قاسم سليماني وعلى أبي مهدي المهندس ورحمة الله وبركاته…

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص