واستهدف المسوقون على مدار العقد الماضي نفسية المشجعين الرياضيين باستراتيجيات تسويق قائمة على بناء علاقات طويلة الأمد.
“نحن نحب الإثارة. نحن نحب الانفعال والصراخ. نحب الإحساس العارم بالنصر وآلام الهزيمة. نحن نحب الصعود إلى القمم عند الفوز والهبوط إلى السهول عند التراجع، والسعادة التي لا يمكن للمال شراؤها. ونحب الضربات المؤلمة”.
هذا مقطع من أنشودة لروابط مشجعي كرة القدم الذين يطلق عليهم اسم “الألتراس”، التي ظهرت في خمسينيات القرن الـ20، تحديداً في أوروبا الشرقية، قبل أن تنتقل إلى دول العالم الأخرى.
وجماعة “الألتراس” لم تبق مجرد روابط لمشجعي فرق كرة القدم سواء في بطولات كرة القدم المحلية أو القارية أو في المونديال. فبعد اتساعها، وضعت خططها التنظيمية الخاصة، وتفردت بهتافاتها المشتركة وأناشيدها التي تمجد لعبة كرة القدم بغض النظر عن التنافس على الربح والخسارة بين فرق “الألتراس” أنفسهم. فتشجيعهم لفرقهم يختلف عن إعلانهم الصريح والصاخب بشغفهم بلعبة كرة القدم الجماعية والجماهيرية.
مع جمهور… بلا جمهور
لكن هذه الانشودة كان يرددها المشجعون المتكتلون حول فرقهم، مقدمين الولاء الأعمى لها قبل الإغلاق العام بسبب انتشار فيروس كورونا منذ عام 2019، ومن ثم السماح بإقامة المباريات لكن من دون جمهور، وبعدها تم السماح لعدد محدد من المشجعين بدخول المدرجات.
وهذه المرحلة كانت قاسية على كرة القدم، اللعبة الأكثر شعبية حول العالم، وظهر واضحاً مدى أهمية حضور الجمهور في مدرجات الملاعب خلال المباريات، كطرف أساسي من دونه تصبح اللعبة مملة أو كأنها لعبة صامتة يلعب فيها اللاعبون بلا حماسة، كأنهم يمررون الوقت. فمن دون هدير وضجيج الجمهور الغاضب أو الفرحان، الذي يشعل المدرجات بالغناء والهتاف لدعم الفريق، فإن حماسة اللاعبين ستهبط.
مَن يصنع الآخر الجمهور أم الإعلان؟
لكن واضعي خطط التسويق الطويلة الأجل الذي يرعون دجاجة عالم كرة القدم التي تبيض ذهباً، لهم رأي مغاير لرأي غوستاف لوبون، لأنهم تمكنوا من استغلال الصفات نفسها التي اعتبرها المفكر الفرنسي “بدائية” لصالح التسويق لمنتجاتهم. فجماهيرية كرة القدم الهائلة تؤمن كل ما تحتاج إليه قطاعات الدعاية والإعلان والمبيعات بالتجزئة وأسواق النقل المباشر والملابس الرياضية ومئات الأنواع من الأسواق المتشابكة معاً. وتقوم شركات الدعاية والإعلان بدراسة الرغبات المختلفة لأعضاء روابط المشجعين والحشود المتدفقة إلى المباريات الذين يشاهدونها عبر شاشات في الساحات العامة والمقاهي والصالات الرياضية أو على الكنبة في منازلهم. وبسبب تطور شبكة الاتصال العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي، بات الإحصاء والحصول على نتائج مباشرة حول رغبات الجمهور وحاجاته وتفضيلاته في التسوق خلال فترات انطلاق المونديال أو بعده، متوافرة في كل حين وبلا جهد كبير.
لكن شركات التسويق تقدمت خطوة في التأثير في رأي هذه الشريحة الكبيرة من الزبائن المفترضين، أي مشجعي كرة القدم حول العالم، الذين يشكلون واحدة من أكبر الشرائح المستهلكة في العالم.
التسويق يدعم العواطف الإيجابية للجمهور
شركات التسويق والإعلانات والدعاية والترويج التي قد لا ترتبط مباشرة بكرة القدم، تلعب على وتر العواطف في سلوك مشجعي كرة القدم. قتقوم بتدعيم الشعور بالرضا عن الفريق ولو كان فريقاً خاسراً دوماً.
فدعم مشاعر السعادة والإثارة والمفاجأة يقود رغبات وتوجهات ومتطلبات مشجعي كرة القدم لسنوات مقبلة، بحسب واضعي استراتيجيات التسويق. والعواطف المضخمة من قبل وسائل الدعاية ترفع من التزام المشجعين بناديهم، خصوصاً بوجود نجم مشهور، وغالباً ما تتم صناعة نجومية هؤلاء اللاعبين بشكل منظم ومخطط.
والرياضة عموماً وعلى رأسها كرة القدم، تعتبر في علم الاجتماع الرياضي بمثابة نسخة مصغرة من المجتمع.
فهناك تنافس، ثم فوز وخسارة، وهناك اللاعبون المميزون والسيئون أيضاً، وهناك كثير من المال الذي يدخل ويخرج منها، وكما هو العادة، يؤسس المال لسلطة متينة قادرة، وربما تتمكن من صنع أيديولوجيا معينة حول اللعبة العالمية بحد ذاتها، أو أيديولوجيا خاصة بفريق من الفرق، فتدخل الصراعات السياسية بين الدول إلى الملاعب وتتم التعبئة الوطنية لدعم الفريق، وتتسابق شركات التسويق والدعاية على كسب ود أكبر عدد من الجمهور، فينتج من عالم التسويق الإعلاني والدعائي، أسواق كثيرة ومتشعبة، تبدأ من سوق صناعة علم الفريق أو قميصه، ولا تنتهي في سوق صناعة النجم وبريقه. وبدأت صناعة النجم تأخذ منحاها الأكاديمي من خلال مدارس تعليم الأطفال لعبة كرة القدم، وهي مدارس تابعة للفرق أو لـ”فيفا” أو للأندية المحلية، وقد باتت منتشرة في جميع أنحاء العالم وتحديداً في العالم الثالث، حيث يحلم جميع الأطفال بأن يصبحوا نجوماً كباراً كالذين خرجوا من نواحي الفقر والحرمان إلى عالم الثراء والشهرة، كبيليه ومارادونا وغيرهما كثر. في السنغال مثلاً هناك مدارس كثيرة تعد صغار اللاعبين للوصول إلى العالمية، وبعد أن تبرز موهبة واضحة بينهم، يدخل لاعب المستقبل في عوالم الجهد الشاق والتنافس الشرس، كي يتمكن من عبور حواجز التقدم والترقي نحو القمة التي يتسابق نحوها ملايين اللاعبين من الملاعب المتربة في أحياء ساوباولو إلى المدارس الأرستقراطية في شوارع لندن وروما. وفي مثال على نتائج المدارس المخصصة لتلقين قواعد كرة القدم، فإنه في خلال المباراة الافتتاحية لكأس العالم 2002 بين فرنسا والسنغال، كان معظم لاعبي المنتخب السنغالي من اللاعبين المحترفين في الأندية الفرنسية، بينما ضم المنتخب الفرنسي كثيراً من اللاعبين الفرنسيين المحترفين في صفوف الأندية البريطانية. فبدت المباراة بالنسبة إلى جماهير الأندية وليس الجماهير الوطنية، كما لو أنها مباراة بين فرنسا السنغالية وإنجلترا الفرنسية.