عرضَ القرآنُ الكريم لعدد من القادة منهم طالوت وذو القرنين وغيرهما. فقال عن طالوت “وزاده بسطة في العلم والجسم”، إذ إن القائد لا يكتفي بالعلوم العسكرية بل مطلق العلم. أما ذو القرنين فكان كذلك الأمر يتمتع بصفات قيادية باهرة، لعلّ أهمها استثمار الطاقات “آتوني زبر الحديد”، والسعي في الأرض شرقها وغربها لرفع الظلم عن كاهل المستضعفين.
“سليماني” نهلَ من تلك الصّفات، كان يتحرك من معسكر إلى آخر ومن جبهة إلى أخرى حتى أن حضوره لوحده كان كافيًا ليغيّر المعادلات، وحيثما حلَّ كان يجذب بتواضعه القلوب، ويُعدّ العدة في تعبئة الأرواح وشحذ السلاح، والحشد الشعبي واحد من نتاجات ذلك الفكر وتلك الثقافة.
هو مثال القائد الذي يفهم العالم، يقرأ التاريخ والجغرافيا، يدرك الزمان والمكان، يكشف العدو، يطوّر الإمكانات، يستحضر السنن ويستشرف المستقبل بل يصنعه بيديه. وهو أيضًا المشرف على الشعر والأدب، وهو الذوّاق. القائد باختصار هو صاحب الوعي والبصيرة والثقافة الأصيلة. إنه السيف الذي يصقل نفسه بالحرف، فيترافق جهاد البأس الشديد مع جهاد البيان والتبيين.
“سليماني” على المنبر لا يختلف عن سليماني في العسكر. إنه المفعم بالروح الثورية الهادرة. تجده ينقل سير الشهداء خاصةً الذين عرفهم، لأنها ومضات تشعل سرائج العقول عند أولي الألباب، إنها القصص التي تختزن العِبر، والمواقف التي تنضح بما يفيض من آبار العشّاق.
إنّ الثقافة هي المنطلق الذي يبني سليماني به بنيانه المرصوص بعقيدة الأبرار. وهو الذي يتابع باهتمام الأعمال الفنية المرتبطة بالثورة، ويقرأ بل ويشارك في الإصدارات التي تحكي ذاكرة الثورة والشهداء. هو المرتبط بالحسينية المعروفة في “كرمان” مسقط رأسه، فالحسينية في فكر أتباع أهل البيت (عليهم السلام) هي الصرح الممرد بعزيمة الكربلائيين الاستشهاديين، وهي التي تُخرّج المؤمنين الحسينيين. أما الدموع فهي جواهر ثورتنا. وكانت كنز سليماني النفيس؛ لأن دموع أتباع هذا الخط ليست دموعَ ضعفٍ ووهن، بل هي التي تكسر متاريس الأعداء وتلهب الحماسة الثورية في نفوس المجاهدين.
عندما قصفت الطائرات الأميركية الإرهابية غدرًا الحاج قاسم سليماني ورفيقه الحاج أبا مهدي المهندس ورفاقهم، في مطار بغداد في مثل هذه الأيام سنة 2020م ، توهّمَ الشيطان الأكبر أنه أغلق ملف أهم ثائر وقف بوجه مخططاته ومشاريعه الاستكبارية في المنطقة وأحبط مؤامراته. ولكن حركة التاريخ من الأنبياء والرسل وأتباعهم ملأى بالقادة الرّساليين الذين قُتلوا فتركوا بصماتهم المُلهمة على دفاتر الزمن؛ لأنّ الثقافة التي ينتمون إليها تؤمن أنّ عمق الحياة إنما تكمن في قلب الخطر والتضحيات، وأن فلسفة الوجود هي أن يحمل الإنسان قضيةً مقدّسة، يعيش لأجلها، فلا يعيش على هامش الحياة ويموت على هامشها، بل يذوب في الإسلام فلا يكون لذاته أي حضور أو أثر، ولا حتى لجسده المليء بالجراح، والمتشظّي لحظة لقاء المعشوق. فأيُّ ثقافة تضاهي تلك الثقافة عظمةً وجلالاً؟!
قائدُنا الطالوتيّ كانت حياتُه حافلةً بالصبر، عميقةً بالفكر، مزهرةً بالنصر، ستقرأها الأجيال نهرًا من الحكم والوصايا اللقمانية. حتى بعد شهادته ترك الحاج قاسم جملةً من صميم ثقافته العابقة بالأصالة، المتجذّرة في مدرسة العشق، حين تقرأ على شاهد ضريحه المبارك : “هنا جنديُّ الولاية”.
بقلم الكاتب والإعلامي اللبناني
الشيخ علي حمادي العاملي