محمد الحسيني
لطالما شكّلت القدس محور القضايا العالمية الجيوستراتيجية عبر التاريخ، وتكرّست محوريتها من خلال ورودها في المرويّات الدينية والأسانيد العقائدية والكتب السماوية التي جعلت منها نقطة جذب تنشدّ إليها ضمائر المؤمنين بالرسالات الإلهية، وكما دارت حولها الحروب انعقدت من أجلها مؤتمرات السلام..
ولطالما أكّد الإمام الخميني الراحل(قدس) على القدس هدفاً نهائياً ينطلق منها شعاع الحق والعدل ليعمّ الأرض كلّها بعد أن يملأها جنود الجهل ظلماً وجوراً. ولم يؤسس الإمام لهذه القاعدة الحتمية على منطلقات دينية وعقائدية بحتة، فنجدها تكتنز في عمق جوهرها رسالة إنسانية شاملة تذهب إلى قطع دابر الجور في العالم وإنهاء مسيرة استعباد البشر، فأرست مدرسته منهج الجهاد من أجل مقاومة المستكبرين ذوي المصالح الاستعمارية والمطامح التوسّعية.
وإذ مرت الذكرى الخامسة لاستشهاد الحاج قاسم سليماني ورفيقه الحاج أبو مهدي المهندس، نقف عند مجموعة من المصاديق المتعلّقة بمدرسة الإمام الخميني(قدس)، والتي تتجلّى في سيرة الشهيد الجهادي الكبير ونهجه الذي ارتبط بالقدس اسماً ولقباً وموقعاً وهدفاً وعملاً، فهو قائد فيلق القدس الذي جعل من مخطّطي السياسة والحرب في كل من واشنطن وتل أبيب والعواصم الغربية الأخرى يتصبّبون عرقاً بمجرد أن يلتقطوا أثراً كان للحاج سليماني فيه دور فاعل، وكان هدفاً للاستخبارات الغربية والأمريكية على وجه الخصوص منذ أن سطع اسمه خلال الحرب الكونية المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي.
ولئن خرجت إيران الإسلام منتصرة في هذه الحرب بإحباط أهداف الغرب في ضرب الدولة الإسلامية الوليدة، فإن آفاق الثورة في تحقيق مديات القضية الأسمى في تحرير القدس وفلسطين من رجس الاحتلال الصهيوني بدأت تتبلور أكثر فأكثر، وشكّلت أساس المهمة الجليلة التي تنكّبها الحاج قاسم، وانطلق من خلالها لتشكيل جيش العشرين مليون عبر توسيع أطر المواجهة بالاعتماد على حركات التحرّر في العالم، ولا سيّما في الرقعة الجغرافية التي كانت تسمّى “دول الطوق” التي تحيط بالكيان الصهيوني.
وقد شكّلت هذه المهمّة من حيث التفكير الاستراتيجي والتطبيق الميداني عملاً جبّاراً، حيث وجب على الحاج قاسم معالجة مجموعة من العقبات المستعصية وصولاً إلى تحقيق الهدف، وأهمها:
– تركيز الاستعمار الأمريكي والغربي عموماً على فلسطين كمنطقة تتوسّط العالمين العربي والإسلامي، وتسخير الطاقات الهائلة لتثبيت ركائز ربيبها الكيان الصهيوني ودعمها في المجالات الاقتصادية والعسكرية والأمنية، فيما كان سليماني يرى أنه يمكن لفلسطين أن تكون قلب محور المواجهة، وتشكّل نقطة قوة في سياق ضرب المشروع الصهيو- أمريكي من خلال دعم المقاومة الفلسطينية بالوسائل كافة، وكذلك لبنان الذي حقّقت مقاومته محطات ناصعة في الانتصار على الاحتلال الصهيوني وأبرزها في العام 2000 مع إنجاز التحرير، والعام 2006 مع الانتصار الاستراتيجي، وآخرها في العام 2024 حيث أحبطت أهداف بنيامين نتنياهو في احتلال الجنوب وكسر شوكة المقاومة فيه.
– السعي الغربي الدؤوب لتطويع الشعوب في الدول العربية والإسلامية وصولاً لإقناعها بفكرة القبول بوجود الكيان الغاصب، فيما كان سليماني – اقتداءً بمقولة الامام الراحل (قدس) – يرى فيها جرثومة سرطانية لن تلبث أن تتوسّع لتبتلع المنطقة ما لم تُقتلع من الجذور، وهذا لا يكون إلا باستنهاض الشعوب نفسها لإحباط هذا الهدف، وانطلق من هذه النقطة بالذات في تشكيل محور المقاومة.
– نجاح الإدارة الأمريكية في إشعال سلسلة من الحرائق المتنقّلة في منطقة غربي آسيا عبر تزكية الفتن الداخلية وإثارة الانشقاقات السياسية الحروب والعسكرية فيما بين الدول الشقيقة والمجاورة، وتشكيل تحالفات عسكرية ظرفية تؤدي بالنتيجة إلى إضعاف هذه الأنظمة مقابل الحفاظ على التفوّق الاستراتيجي للكيان الصهيوني، فيما كان الحاج قاسم يسعى بشكل دائم للحدّ من الخلافات، ومواجهة خطاب العنصرية المبني على النزعات القومية، والذي سعى الغرب إلى تسويقه للتفريق بين ما هو عربي وما هو فارسي، والتركيز على القدس كبوصلة جامعة للعرب والمسلمين.
– الترويج لما بات يُعرف بالاسلاموفوبيا لتخويف المجتمعات الغربية من الإسلام ديناً والمسلمين انتماءً، وصولاً إلى ابتداع فكرة الإسلام المتشدّد والآخر المعتدل – أسماه الإمام الخميني (قدس) بالإسلام الأمريكي – أما الحاج قاسم فقد اجتهد لتبيان مكامن الخطر المحدق بالأمّة من خلال إظهار الوجه الحقيقي للإسلام الذي يسعى الغرب لتشويه صورته، فرأيناه يتنقّل بين العراق وسوريا ولبنان واليمن وتركيا وفي أي قطر عربي وإسلامي ليؤكد زيف الخطاب الغربي ويقوّم الاتجاه نحو مواجهة الكيان الصهيوني كونه يمثّل المشروع الغربي الرامي لتفتيت المنطقة واحتلالها.
مثّل الحاج قاسم بوجوده وعمله مشروع الإمام الخميني(قدس) وتحت رعاية الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) وتوجيهاته، فنجح في تأسيس جبهة المقاومة واستطاع بحنكته الإدارية وخبرته الجهادية وصفاته الكاريزماتية أن يستنهض الجبهات في كل من فلسطين ولبنان والعراق واليمن وسوريا، ويبني جسر العبور من إيران إلى محاور هذه الجبهة المباركة، وأفلح مع المجاهدين المخلصين من أن يطرد الاحتلال الأمريكي ويقلّص من سيطرته وهيمنته على شعوب هذه الدول، ويفرض معادلة جديدة في المواجهة لم يجد معها الأمريكي إلا سلاح الغدر الجبان فقام بقتله غيلةً على أرض العراق مع رفيق دربه الحاج أبو مهدي المهندس.
رحل الحاج قاسم بعد أن نجح في أداء مهمّته بكل صدق وإخلاص، وشكّل أنموذجاً للقيادي المشتبك الذي لا يهدأ في تجواله من محور إلى محور، ويخطئ الأمريكي وغيره في أن اغتياله من شأنه أن يأخذ جبهة المحور إلى الذبول والركون، فإن ما أسّس له القائد الشهيد يكتسب ميزة التطور والاستمرار على الرغم مما قد يبدو للبعض من أن أمريكا والكيان الصهيوني حقّقا انتصاراً في حروب لبنان وفلسطين وسوريا، فكما خرّجت مدرسة الامام الخميني(قدس) نماذج قيادية جهادية كالحاج قاسم وسماحة السيد الشهيد حسن نصر الله والشيخ الشهيد إسماعيل هنية، فإنها تزخر بالنماذج المبهرة التي ستكمل النهج والطريق وصولاً إلى تحقيق الوعد المحتوم وتحرير القدس الشريف.