منذ عام 2005، عندما كان على الجيش الصهيوني أثناء رئاسة وزراء ارئيل شارون، الملقب بجزار صبرا وشاتيلا، قبول فشل الخطط العسكرية في غزة والانسحاب من قطاع غزة بأكبر قدر ممكن من الخزي، ولكن الأهداف الاستراتيجية للصهاينة تجاه الضفة الغربية هي منع نمو خطاب المقاومة وتكرار سيناريو غزة في هذه المنطقة.
لكن بعد ما يقرب من عقدين من إجراءات الكيان للسيطرة الكاملة على الوضع الأمني في الضفة الغربية، سارت عملية التطورات في هذه المنطقة بالضبط في الاتجاه الذي كان الصهاينة يرونه كابوسًا لسنوات، حيث إضافة إلى تعالي الخطاب المقاوم تم إيجاد الكثير من التشكيلات العسكرية حتى خارج غزة، وأصبحت واقع حال على العدو في الضفة الغربية. في غضون ذلك، تعتبر مدينة جنين نقطة تحول في تشكيل غزة الثانية في الأراضي الفلسطينية.
جنين محور النضال ضد الغزاة
في الأشهر الأخيرة، كانت كل الأنظار في فلسطين المحتلة موجهة نحو مخيم جنين في شمال الضفة الغربية، حيث منع شبان فلسطينيون الصهاينة من النوم. منذ قيام الكيان الصهيوني المزيف عام 1948، أصبحت منطقة جنين مقراً للمقاومة ضد الغزاة، وفي الحرب الأولى بين الدول العربية والفصائل الفلسطينية مع هذا الكيان، منع العرب احتلال هذه المدينة.
في عام 2002، عندما هاجمت القوات الصهيونية الضفة الغربية، نمت مقاومة هذا المعسكر ضد العدو. في تلك العملية الوحشية، التي استشهد فيها عشرات الفلسطينيين وتم تدمير عدد كبير من منازل الفلسطينيين، أصبح الفلسطينيون مصممين على مواصلة النضال، وأطفال الفترة نفسها الذين شاهدوا المعاناة والمصائب بأعينهم. الآن مسلحون وقد بدؤوا بالانتقام لسفك الدماء ظلما من الصهاينة.
هذه المنطقة التي يبلغ عدد سكانها 27 ألف نسمة ليست في حالة جيدة بسبب الضغوط الاقتصادية للكيان الصهيوني، وهذه القضية هي السبب الرئيسي لمواجهة الغزاة. كيف تمكنت الفصائل الفلسطينية من الوصول إلى هذا المستوى من القوة العسكرية والردع رغم كونها محاصرة وتحت الاحتلال هو سؤال أربك الصهاينة في إيجاد الإجابة.
على الرغم من أن الكيان الصهيوني، بمساعدة استخبارات من منظمات الحكم الذاتي، كان يراقب بعناية الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس حتى وقت قريب من أجل منع تسليح هذه المناطق، ولكن بدأ الفلسطينيون طريقًا جديدًا للقتال ضد الغزاة منذ العام الماضي. أعلنت فصائل المقاومة بقيادة “عرين الأُسود” عن وجودها منذ بداية عام 2022، ولم يمض وقت طويل حتى برزت هذه المجموعات ضد العدو الصهيوني، وجعلت عملياتها الاستشهادية تلك السنة دموية ومظلمة لهذا الكيان.
وحسب السلطات الأمنية والإعلام الصهيوني، فقد نفذ فلسطينيون العام الماضي مئات العمليات الاستشهادية ضد المستوطنين، راح ضحيتها 30 صهيونيًا وجرح العشرات. جنين منطقة شبه خارجة عن سيطرة الأجهزة الأمنية لمنظمة الحكم الذاتي، ويواجه هذا التنظيم العديد من المشاكل في جمع المعلومات من الفلسطينيين في هذه المنطقة للمحتلين، وأحد أسباب غضب الصهاينة ضد المنظمة المتمتعة بالحكم الذاتي هي حقيقة أنها لا تستطيع تقديم معلومات لتل أبيب.
لذلك فإن ضعف تنظيم الحكم الذاتي، الذي انفصل العديد من فلسطينيي المقاومة في الضفة الغربية عن جسد أجهزتها الاستخبارية، جعل مقاومة جنين تكتسب قوة يومًا بعد يوم، ويعيش الشباب على الأرض دون أي عيون وفقط لإنقاذ الأراضي المحتلة وساروا على طريق استعادة أراضيهم بعد سبعة عقود.
إضافة إلى استشهاد منفذي العملية الاستشهادية في جنين، يقوم الكيان الصهيوني أيضًا باعتقال وتعذيب كل من حولهم من أجل بث الخوف والذعر في نفوس الآخرين حتى لا يقوموا بمثل هذه العملية، إلا أنه كان لهذه الإجراءات نتائج عكسية، حيث زاد الشباب الفلسطيني من نطاق عملياتهم دون خوف من العدو.
الآن تدرب جيل جديد من المقاومة في الضفة الغربية، وخاصة في جنين، هو تحذير للمحتلين بأن الإجراءات القمعية على عكس تصوراتهم لم تمنع الفصائل الفلسطينية من القتال، بل مع فشل عملية المصالحة. والانتصارات المتتالية لمقاومة غزة في السنوات الأخيرة جعلتهم مصممين على مواصلة المسار الذي بدؤوه. لأن الفلسطينيين في الضفة الغربية أصبحوا يعتقدون أن السبيل الوحيد لتحرير الأراضي المحتلة هو الكفاح المسلح، وأن العدو المحتل لا يفهم إلا لغة القوة.
إن حقيقة أن مراهقين فلسطينيين ضربوا قلوب الجنود الصهاينة المسلحين بالسلاح البارد والساخن دون أي خوف، يدل على أن هؤلاء الشباب شاهدوا جرائم الإسرائيليين بأعينهم منذ الصغر وأعدوا أنفسهم لمستقبل عنيف.
من النقاط المهمة في تعزيز المقاومة في جنين انضمام جميع الفلسطينيين القاطنين في هذه المنطقة إلى المقاومة، وهم يدعمون هذه المجموعات ويرفضون إعطاء معلومات للمنظمات والمحتلين، وحتى صور المجاهدين الفلسطينيين لم تنشر على الشبكات الافتراضية، ولا توجد معلومات عن قادة هذه المجموعات في أيدي المحتلين الذين يستطيعون القضاء عليهم بخطط لاغتيالهم، وإذا نجحوا بذلك فهذا بسبب الهجمات العسكرية العشوائية والعمياء.
الجبهة الثانية للمقاومة
الكفاح المسلح ضد المحتلين بدأ من قبل فصائل المقاومة في غزة منذ سنوات عديدة وزادوا قوتهم يوما بعد يوم حتى تمكنوا من توجيه ضربات شديدة للعدو الإسرائيلي في حروب غير متكافئة. كانت تجربة انتصارات مقاومة غزة في السنوات الأخيرة، والتي أجبرت الصهاينة على مهادنة المقاومة، منارة للفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية لوضع طريق النضال هذا على أجندتهم، والآن أصبح مخيم جنين أخطر على تل أبيب من غزة، وهم ينظرون إليه على أنه الجبهة الثانية للمقاومة الفلسطينية.
مقاومو جنين مع إخوانهم في غزة يخططون لعمليات استشهادية ضد المستوطنين، والذين يحظون في هذه الأثناء بالدعم العسكري والروحي من حماس والجهاد الإسلامي.
وصل الوضع الأمني في جنين إلى شفا كارثة في الأشهر الأخيرة، وضاق القادة الصهاينة من عدم قدرتهم على التعامل مع المقاومة في هذه المنطقة. حاول الجيش الصهيوني مرارًا تدمير المقاومة بمهاجمة جنين، لكنهم فشلوا دائمًا وواجهوا المقاومة المسلحة للفلسطينيين.
في ظل الوضع الحالي أصبح مخيم جنين الشغل الشاغل الأمني والعسكري لتل أبيب، ويقول محللون صهيونيون إن هذا المخيم أصبح بمثابة قلعة محاطة بالحواجز الفلسطينية وكاميرات المراقبة، وهذا الوضع يجعل الأمر صعبًا على الجيش الصهيوني هناك.
ويعتقد المحلل الصهيوني أمير بار شالوم أن “مخيم جنين أصبح معقلًا قويًا، ووضع الفلسطينيون كاميرات المراقبة هناك، ولديهم جهاز استخبارات كامل وقوات مراقبة وفي الليل، يضعون أيضًا الحواجز ونقاط التفتيش. كل غارة للجيش الاسرائيلي لم تعد مجرد عملية اعتقال، وانما معركة ضخمة تجري ضد مواقع قريبة وبعيدة وعمليات استشهادية واسعة النطاق، كل هذا حول جنين إلى مسلخ صهيوني وهذا هز سلطات الكيان.
إن الكيان الذي يدعي أنه أكبر قوة عسكرية في المنطقة، وحسب المراقبين لديه أكثر من 200 رأس نووي، قد ركع أمام الشباب الفلسطيني وخسر المبادرة، وترك العمل خارج أيدي رجال دولة تل أبيب. إن إرسال عشرات الآلاف من القوات العسكرية المكونة من الموساد والشرطة والجيش حول جنين يظهر أن هذا الكيان أصبح عاجزاً أمام الفلسطينيين.
مثلما كان عام 2022 عامًا مخيفًا وداميًا للصهاينة، سيكون العام الجديد أكثر قتامة من ذي قبل بسبب اشتداد المقاومة في جنين والعمليات الاستشهادية الواسعة، إلى جانب عدم الاستقرار السياسي والانقسامات داخل الكيان الصهيوني، وسيأخذ الكيان الصهيوني خطوة إلى الأمام، وستكون مرحلة الانهيار أقرب.