تقف فران على أطلال منزلها يعتصرها الألم، وهي تحكي بصوت مرتعش في فيديو عبر “تيك توك”، كيف وضعوا منذ 26 عاماً أرضيات ذلك المنزل ونوافذه وأبوابه، وقاموا بطلائه، والذي تحول كله بدون سابق إنذار إلى رماد.
لم يكن ما سلبته النيران العاتية بالنسبة لتلك السيدة الستينية مجرد منزل، لقد سحقت الحرائق في طريقها موطن الذكريات الجميلة واللمات العائلية الدافئة واحتفالات الأيام والليالي السعيدة التي قضتها بصحبة الأبناء والأحفاد وكوكبة من الأقارب في أعياد الميلاد.
آلاف الفيديوهات والصور التي شاركها سكان منطقة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تحكي تجربتهم المؤلمة مع الحرائق التي اجتاحت الولاية الأسبوع الماضي، مخلفة دماراً هائلاً، لم يتبق معه للكثير منهم ما يملك سوى الرماد.
ومنذ يوم الثلاثاء السابع من كانون الثاني/يناير الجاري، اجتاحت حرائق شرسة مساحات واسعة في لوس أنجلوس، ما زال بعضها مشتعلاً لم يتم احتواءه، مع احتمال نشوب حرائق جديدة بسبب الرياح العاتية المتوقعة هذا الأسبوع.
وأسفرت الحرائق على مدار الأسبوع الماضي عن أضرار شديدة في العديد من المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، ودمرت أحياء بأكملها، وأدت إلى مصرع ما لا يقل عن 25 شخصاً، بحسب التقديرات الأولية، ومن المتوقع أن يرتفع عدد القتلى مع استمرار عمليات البحث بين الأنقاض.
وقد أصدرت السلطات المحلية أوامر إخلاء طالت نحو 150 ألف شخص على مدار الأيام الأولى من الكارثة، ولا يزال حوالى 88 ألف شخص في حالة إجلاء بعد مرور ما يزيد على أسبوع منذ بداية الكارثة، ومع ذلك، تحذر السلطات من احتمالية إجلاء نحو 84 ألف شخص إضافي إذا ما انتشرت الحرائق من جديد.
وأدت الحرائق إلى انقطاع التيار الكهربائي عن عشرات الآلاف من السكان في مختلف أنحاء كاليفورنيا، معظمهم في مقاطعة لوس أنجلوس، وقال مسؤولون إن البنية التحتية للصرف الصحي والمياه في جميع أنحاء المنطقة قد تعرضت لأضرار كبيرة.
تكاليف باهظة
لا يُعد تقدير الضرر الناجم عن الحرائق على وجه التحديد متيسراً وفق الظروف الحالية، ولكن من المتوقع أن تكون هذه الحرائق واحدة من الكوارث الطبيعية الأكثر تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة، حيث اندلعت في مناطق ذات كثافة سكانية عالية، ضمت عقارات باهظة الثمن، لا سيما في منطقتي باسيفيك باليساديس وماليبو، التي يقطنها أثرياء يتملكون عقارات بملايين الدولارات.
ولم يتم نشر أي تقديرات رسمية في هذه المرحلة، وقد يستغرق الأمر أشهراً عدة أخرى حتى تتمكن السلطات الرسمية من تقدير الأضرار التي سببتها الحرائق، وقدرت شركة “أكيو ويذر”، وهي شركة خاصة تقدم بيانات عن الطقس وتأثيراته، أضرار الحرائق ما بين 250 و275 مليار دولار، ومع استمرار الحرائق من المرجح بشدة ارتفاع تكلفة الأضرار.
ووفق أرقام إدارة الغابات والحماية من الحرائق الأميركية، استهلكت الحرائق ما يزيد على 40 ألف فدان، وأتت على أكثر من 12 ألف منشأة، مع العلم أن تقييمات الأضرار ما زالت جارية في منطقتي باليسايدس وإيتون.
ولم يقتصر الأمر على الأضرار المادية، فقد نالت الحرائق من عناصر معنوية تحمل أهمية ثقافية للسكان، حيث تسببت في تدمير العديد من أماكن العبادة، بما في ذلك مسجد وكنيس يهودي وأبرشية كاثوليكية والعديد من الكنائس البروتستانتية.
وتعتبر دور العبادة مكاناً للتعلم والتعافي والمشاركة المجتمعية في الولاية، فهي فضلاً عن كونها موضع ممارسة الصلوات والواجبات الدينية، تستضيف نشاطات اجتماعية، مثل المحاضرات والفعاليات الفنية، ويدير بعضها مدارس وفرق كشافة، وتقدم خدمات مجتمعية، منها تنظيم اجتماعات للمدمنين على الكحول وغيرها من أجل التعافي.
وقد التهمت النيران ملاذاً لأجيال من الأسر السوداء في ألتادينا، التي كانت مزيجاً من المساكن الصغيرة والقصور الفخمة، وشكل السود الذين ينتمي معظمهم إلى الطبقة المتوسطة خمس سكانها، يعيشون جنباً إلى جنب مع الأثرياء والمشاهير ونجوم السينما.
وكانت ألتادنيا قد أتاحت مع بداية حقبة الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين الفرصة للأميركيين السود للوصول إلى الطبقة المتوسطة، من دون المرور بسياسات التمييز العنصري، وهو ما جعل أكثر من 81% من السود يمتلكون منازلهم الخاصة في المنطقة، وهو ما يمثل ضعف المتوسط على المستوى المحلي.
ولكن المؤسف، أن الحرائق قد تؤثر بشكل جدي في إعادة بناء التركيبة السكانية في المنطقة، بحيث لا يمكن إعادة الزمن إلى الوراء بالنسبة لهذه العائلات، فالعديد منها قد لا يستطيع البقاء، حيث سيكون غالباً إعادة البناء في ألتادينا فوق قدراتهم المادية.
أخطار على الصحة العامة
وتحمل الحرائق معها مخاطر جدية على الصحة العامة، حيث تسببت في تدهور جودة الهواء بشكل خطير من خلال إطلاق الدخان والجسيمات الدقيقة والغازات السامة، ما ينجم عنه مخاطر كبيرة فورية وطويلة الأمد على صحة السكان في جميع أنحاء الولاية، وخاصة الفئات التي تعاني من أمراض الجهاز التنفسي وكبار السن والأطفال.
ونجم عن الحرائق تعطيل الخدمات والموارد الصحية الحيوية، بسبب النزوح الواسع النطاق للسكان، والإخلاء الطارئ للمرافق الصحية، واضطرت الصحة العامة لإعلان حالة طوارئ صحية في الولاية، استجابة للتأثيرات الواسعة النطاق للحرائق المتعددة والمستمرة وظروف العواصف.
ومع بدء عودة بعض السكان إلى منازلهم التي لم تتضرر، لا تزال العودة غير آمنة بحسب المختصين، وذلك بسبب خطوط الغاز والكهرباء التالفة، إضافة إلى تسرب الدخان والمواد الكيميائية السامة المنبعثة عن الاحتراق إلى المنازل، وامتصاص الجدران والأرضيات والأثاث والأسطح الداخلية المختلفة لها، ومن ثم إطلاق غازات سامة لأسابيع أو حتى أشهر، ما يشكل خطراً على الصحة، خصوصاً على الرئتين والعينين والجلد.
ويمثل تلوث المياه مشكلة مقلقلة، وقد أعلنت العديد من الشركات أن مياه الشرب التي تقدمها قد تكون غير آمنة، فمن الممكن أن تكون المواد الكيميائية السامة الناتجة عن الحرائق تسربت إلى شبكة أنابيب المياه، ووفق الخبراء لا تعد الطرق التقليدية مثل الترشيح أو الغليان نافعة.
ومن جانب آخر، أثرت الحرائق سلبياً على الصحة النفسية للسكان، حيث فقد الكثير منهم منازلهم وممتلكاتهم بالكامل، أو بقوا مع القليل منها بدون استعداد نفسي سابق، واضطروا للنزوح وتغيير نمط حياتهم، مع عدم الثقة بعودة الأمور إلى سابق عهدها.
ويقول الأطباء والخبراء النفسيين إن بعض تبعات الحرائق النفسية تتمثل بالقلق طويل الأمد والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، والتي قد تتطور وتزداد حدة مع مرور الأيام، وربما أصبحت صدمة ملازمة لبعض الأشخاص تستمر مدى الحياة.
مجابهة الكارثة
وتسببت الحرائق في أزمة حقيقية للعديد من السكان الذين طلب إليهم الإخلاء، في حين أنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف مغادرة منازلهم والإقامة في فندق، لذلك سارعت السلطات المحلية بفتح عدد من الملاجئ في المنطقة، لاستضافة النازحين، كما أتاحت للسكان المشمولين بقرار الإجلاء، إمكانية التسجيل في برنامج حكومي للحصول على تعويض عن التكاليف التي تكبدوها بسبب الإقامة في فندق.
ووافق الرئيس الأميركي جو بايدن على إعلان ولاية كاليفورنيا منطقة منكوبة، ما يسمح للمجتمعات المتضررة والناجين من الحرائق بالوصول بسرعة إلى الأموال والموارد اللازمة لتسريع عملية التعافي.
وأعلن بايدن أن الحكومة الفيدرالية ستدفع كامل تكاليف مكافحة الحرائق والتعافي منها في أول 180 يوماً، وتستخدم المساعدات الفيدرالية لتزويد الناس بمنح السكن المؤقت والقروض منخفضة التكلفة لتغطية الخسائر في الممتلكات غير المؤمنة، وإزالة الأنقاض ونحوها.
وتتعاون ثلاث جهات في العمل على تقديم الدعم للمتضررين من الحرائق، وهي: شركات التأمين ووكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية، وإدارة الأعمال الصغيرة. وتقوم وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية بالمساعدة في تلبية الاحتياجات غير الملباة، بعد دفع شركات التأمين التعويضات المترتبة عليها.
وقد أنشأت الوكالة مركزين للتعافي في باسادينا ولوس أنجلوس، ويفترض أن يقوم السكان بالتسجيل عبر الإنترنت للحصول على المساعدة، حيث تقدم الوكالة نحو 770 دولاراً للمساعدة في تغطية الاحتياجات الفورية أثناء الإخلاء، أما المنح الأكبر التي تصل إلى أكثر من 43 ألف دولار، لا تقدم إلا بعد دفع شركات التأمين.
وبحسب الوكالة الفيدرالية، فقد تقدم نحو 40 ألف شخص بطلبات للحصول على المساعدة خلال الأسبوع الأول، وقدمت الوكالة أكثر من 8 ملايين دولار للاحتياجات الفورية.
وتقدم إدارة الأعمال الصغيرة قروضاً منخفضة الفائدة، ويمكن لأصحاب المنازل اقتراض ما يصل إلى 500 ألف دولار لإعادة البناء، و100 ألف دولار أخرى للممتلكات الشخصية.
واتخذ حاكم كاليفورنيا جافين نيوسوم الأسبوع الماضي قرارات من شأنها الحد من تأخير تصاريح البناء، لمساعدة ضحايا الحرائق على إعادة بناء منازلهم وشركاتهم بشكل أسرع، ومدد الحماية ضد رفع الأسعار على مواد البناء وخدمات التخزين والبناء وغيرها من السلع والخدمات الأساسية حتى 7 كانون الثاني/يناير 2026، واقترح توفير 2.5 مليار دولار على الأقل تمويلاً إضافياً استجابة للوضع الجاري ودفع جهود التعافي.