لم يكن معقولاً ما شاهده أهالي مدينة غزة عند مفترق السراي في وسط المدينة، في عصر اليوم الأول الذي أعقب 470 يوماً من حرب ضروس، لم يعطِ جيش الاحتلال فيها متنفّساً من الضغط الميداني، سوى ستة أيام بعد 50 يوماً من القصف، إذ ظهر مقاومو «كتائب القسام» بكامل العتاد والزي العسكري، وسط شمال القطاع الذي نال القسط الأوفر من الحرب. صحيح أن احتفاظ المقاومة بالأسرى يبدو أمراً منطقياً بالنظر إلى تجربة المقاومة في حرب عام 2009 والتي انتهت بصفقة تبادل عام 2011، ثم في حرب عام 2014 حين احتفظت بأربعة أسرى لم يستطع جيش الاحتلال الوصول إليهم، في ما مثّل نجاحاً متكرراً من الناحية الأمنية والاستخباراتية. لكن لا شيء من تجارب المقاومة في حروبها السابقة يشبه بأي شكل من الأشكال اختبار هذه الحرب، حيث استعان جيش الاحتلال بأحدث منظومات الرقابة والتتبع الغربية، وكانت عشرات أجهزة المخابرات والرقابة الأميركية والبريطانية تعمل إلى جانبه، كما صبّ مئات الأطنان من المتفجرات على 90% من منازل القطاع، وبالأخص منه مناطق شمال الوادي.
هكذا، أظهرت المقاومة في مشهدية تسليم الأسيرات الثلاث على ذلك النحو الشعبي الصاخب، اقتداراً وندية ستكون لهما تداعياتهما في صراع سردية المنتصر والمهزوم، وخصوصاً لدى حكومة الاحتلال ومؤسساتها الأمنية. أما الأكثر قسوة، فكان احتشاد الآلاف من النازحين الذين دمّرت الحرب منازلهم وفقدوا أحباءهم، ليحيطوا بالمقاومين، ويمضوا ساعات وهم يلتقطون الصور الشخصية معهم، إذ حمُل هؤلاء الشبان على الأكتاف، وهتفوا للمقاومة، لتمحو ساعات العز، ولو مؤقتاً، غصة القلب التي شاهدها هؤلاء في مخيم جباليا.
أما الطريقة التي تمت بها عملية تسليم الأسيرات لـ”اللجنة الدولية للصليب الأحمر” ، فكانت لافتة بدورها؛ فعلى رغم حجم الضغط العسكري الإسرائيلي الذي تركّز على مناطق شمال القطاع و خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عمر الحرب، فإن المقاومين لم تفتهم العناية بأدق التفاصيل، إذ ظهروا بكامل زيهم العسكري، وفي موكب كبير ومتشابه من السيارات والجيبات الحديثة، وفي مسير عسكري متناسق، فيما الأسيرات سلّمتهن المقاومة قرار الإفراج عنهن ممهوراً بختم «كتائب القسام»، بالإضافة إلى خريطة غزة وعدد كبير من الصور التذكارية التي التُقطت لهن خلال مدة الأسر. وعلى الأرض، كان المكتب الإعلامي لـ»كتائب القسام» يوثّق لحظات التسليم، في حين نظّم فريق أمني كامل احتشاد عشرات الآلاف الذين تجمّعوا لترقب الحدث المهيب. وبالنتيجة، استطاعت المقاومة في اليوم الأول من وقف الحرب، أن تعمّم سرديتها في مقابل سردية رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الذي كان آخر مشهد يتمناه أن تظهر غزة في اليوم التالي، وفي قلبها مقاومو «القسام» يسلّمون الأسيرات من تحت فوهات البنادق، بل ومعمّدين بالتفاف شعبي بدا في بهجته وكأنّ حرباً لم تكن.