الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين المعروف بـ (الحر العاملي)، صاحب التأليفات القيّمة والآثار الحميدة، شيخ الاسلام وزعيم الشيعة في عصره، لقب بـ (المشغري) نسبةً إلى قريته مشغرة في لبنان، وعرف بـ (صاحب الوسائل) نسبةً إلى كتابه (وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة)، ولد في 1623م، في أسرة لها تاريخ عريق مع العلم والأدب وقد نزح كثير منها إلى إيران وكان لها دور في تنشيط الحركة العلمية هناك، وتعرف هذه الأسرة بأسرة (آل الحر) وترجع في نسبها إلى الشهيد الحر بن يزيد الرياحي الذي استشهد مع الإمام الحسين (ع) في عاشوراء. يقول السيد محسن الأمين: ” “وآل الحر بيت علم قديم نبغ فيه جماعات ولا يزال العلم في هذا البيت إلى اليوم، ويمتازون بالكرم والسخاء وبشاشة الوجه وحسن الأخلاق”.
نشأ الشيخ الحر العاملي في هذه الأسرة التي أنجبت كبار العلماء والفقهاء والمحققين فكان والده عالم فاضل صالح وأديب فقيه وثقة وحافظ القرآن وملم بالآداب والعلوم العربية وكان مرجع الناس وملاذهم وقد توفي في طريق السفر الى مدينة مشهد المقدسة، ولعمه الشيخ محمد بن على بن محمد الحر العاملي كتاب الرحلة والحواشى والتعليقات والفوائد كماله ديوان شعري كبير وجده الشيخ علي بن محمد الحر العاملي كان عالماً عظيم القدرو عابدا” دمث الأخلاق ومن أفاضل زمانه وجد ابيه الشيخ محمد بن حسين الحر العاملي ايضاً” كان فقيها فاضلاً وأعلم أهل عصره في الفقه والعلوم المنقولة، كما كان ولده الشيخ محمد بن محمد افضل واعلم علماء عصره في العلوم المعقوله.
موطنه جبل عامل
يعتبر جبل عامل على مر الأجيال خزان العلم والعلماء وعلى الرغم من صغر مساحته الجغرافية إلاّ أن علمائه يمثلون خمس علماء الشيعة في العالم. حفظ هذا الجبل خط الرسول وأهل البيت(ع) منذ أن وطأت أقدام الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري أرضه أي منذ أكثر من ألفٍ وثلاثمئة عام وقدموا من أجل ذلك الأرواح والمهج فكان منهم الشهيد الأول والشهيد الثاني وما زالت المسيرة مستمرة.
وقد سطعت شهرة جبل عامل في القرون الخمسة المتأخرة، بعد أن خرج منه علماء وأدباء ذاع صيتهم، خصوصاً في العراق، وبلاد فارس. فكنّ أهل هذه البلاد احتراماً فائقاً لهم، ولا يكاد يجد المرء كتاباً من كتب الشيعة إلا وذكر فيه عدة علماء من جبل عامل، حتى أصبح تاريخ الشيعة في لبنان جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الشيعة في العالم، أثّروا فيه وتأثروا به، سلباً أو إيجاباً، خاصة مع وضع الشهيد الأول كتاب “اللمعة الدمشقية” الذي أصبح مادةً دراسية أساسية في الحوزات العلمية الدينية التي تُعدّ العلماء والفقهاء، ومع نشوء الدولة الصفوية (1500) لعب علماء جبل عامل وفقهاؤه، دوراً كبيراً جداً في نشر التشيع في بلاد فارس.
لقد أاقام الشيخ الحر العاملي حتى الأربعين من عمره في جبل عامل واستقر في مدينة مشهد المقدسة إلى آخر أيام حياته. وفي مدينة مشهد المقدسة أسند اليه الشاه منصب قاضي القضاة وبعد مدة وجيزة أصبح كبير علماء خراسان وقد عقد حلقات الدرس والبحث هناك وتتلمذ على يديه كبار العلماء والفضلاء وكان جلسات درسه عامرة بالتلامذة الجادين التواقين لعلوم أهل البيت (ع).
أساتذته وتلاميذه
قرأ الشيخ الحر في وطنه “جبل عامل” المقدّمات عند أساتذة كانت لهم اليد الطولى في التدريس ، وقد تركوا الأثر الطيب في نشوئه ونموه إلى أن استوى عوده عالماً مجتهداً. كما كانت حلقات دروسه عظيمة وكان يفد عليه كثير من طلاب العلم وقد توسعت المصادر في ذكر أسماء الكثير من أساتذته وتلاميذه وسنقتصر على البعض منهم، فمن أساتذته: والده الشيخ حسن، عمّه الشيخ محمّد، جدّه لأُمّه الشيخ عبد السلام الحر، خال أبيه الشيخ علي بن محمود العاملي، الشيخ حسين الظهيري، ومن تلامذته العلّامة المجلسي، الشيخ أبو الحسن الشريف الفتوني العاملي، الشيخ محمّد جعفر الخراساني الكرباسي، أخوه الشيخ علي، نجلاه الشيخ محمّد رضا والشيخ حسن، السيّد محمّد السيّد إبراهيم شرف الدين، الشيخ حسن بن خميس، الشيخ محمّد فاضل المشهدي.
الاتجاه الفقهي للشيخ الحر العاملي
هناك اتجاهان لاستنباط الأحكام الشرعية الفقهية عند الإمامية يحمل كل اتجاه اسما خاصا، هما ” الاتجاه الاخباري ” و ” الاتجاه الأصولي “.الشيخ الحر العاملي كان إخبارياً صرفاً في اتجاهه الفقهي ومعتدلاً في رؤيته الفقهية فهو يذكر في كتبه وخاصة في الوسائل وأمل الآمل- أعلام الفريقين بكل تجلي واحترام ولا يحط من مرتبة أي واحد لسبب اتجاهه الخاص في الفقه إذا صح هذا التعبير.
مؤلفاته القيمة
للشيخ الحر العاملي مؤلفات عظيمة قيمة وقد خصص حياته الشريفة لخدمة الشريعة الاسلامية ومذهب أهل البيت (ع) مع انشغاله في أعمال وجهود كثيرة والتصدي لمنصب شيخ الاسلام واشتغاله بالدراسة وتربية العلماء أيضا” مع ذلك ترك للتراث الاسلامي الشيعي مؤلفات قيّمة عظيمة ومن أهمها السفر الجليل “وسائل الشيعة” التي يتداولها العلماء كمصدر فقهي رئيسي ومرجع هام لعلماء الشيعة إلى يومنا هذا، ومن بين مولفاته:
– تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، المشهور ب-“وسائل الشيعة” و”الوسائل” وهو كتاب جليل يشتمل على قسم وافر من الأحاديث الصحيحة المعمول بها عند العلماء الإمامية الاثني عشرية. وهو كتاب فقهي فيه ألوان من الفقه الاستدلالي حينما يريد الجمع بين الروايات المختلفة واستخراج الحكم الفقهي منها.
– من لا يحضره الإمام: فهو فهرس تفصيلي لكتاب وسائل الشيعة يشتمل على عناوين الأبواب وعدد أحاديث كل باب ومضمون الأحاديث وهو مطبوع مع الوسائل.
– تحرير وسائل الشيعة وتحبير مسائل الشريعة: يشتمل على بيان ما يستفاد من الأحاديث والفوائد المتفرقة في كتب الاستدلال من ضبط الأقوال ونقد الأدلة وغير ذلك من المطالب المهمة وقد خرج منه شرح المقدمة وكتاب العبادات وكتاب الطهارة إلى مبحث الماء المضاف.
– إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: وهو كتاب يجمع بين دفتيه الأحاديث الواردة في شأن النبي(ص) والسيدة الزهراء (ع) والأئمة المعصومين (ع) والتي نقلها علماء الفريقين في مؤلفاتهم وبلغت مصادر هذا الكتاب إلى ما يقرب من خمسمائة مصدر من أمهات المصادر الإسلامية الشيعية والسنية، هذا بالإضافة إلى أكثر من عشرين مؤلفاً ومصنفاً. وكذلك كتاب أمل الآمل، الذي يحوي أسماء علماء جبل عامل والمتأخرين من العلماء.
أشعاره
فضلاً عن فقهه وروايته للحديث ، وتبحّره في كثير من المعارف والعلوم، فقد كان شاعراً، وله ديوان كبير حوى عشرين ألف بيت ضمّ منظومات عديدة في التاريخ والمواريث والزكاة والهندسة، إضافة إلى قصائده الكثيرة في مدح أهل البيت (ع).
مكانته الاجتماعية والعلمية
كان الشيخ الحر العاملي من أبرز وأافضل علماء الشيعة في القرن الحادي عشر الهجري وله مؤلفات ثمينة قيمة كما كان موضع احترام وتبجيل لدى علماء الشيعة وهو من الوجوه المشرقة اللامعة الذي أثرى المخزون الفقهي والعلمي للشيعة بروايات أهل البيت وترك آثاراً غالية تستحق بالغ التقدير ويُعد الشيخ من إحدى الحلقات القوية المتينة من السلسلة المرتبطه بروايات الرسول (ص) والأئمة(ع).
يقول السيد علي خان المدني شارح الصحيفة السجادية عنه: “الشيخ محمد بن حسن بن علي بن محمد الحر الشامي العاملي من الشخصيات البارزة وله مكانة علمية فائقة والذي يكل اللسان عن تعريفه.”
ويقول العلامة الأمينى في سفره القيم “الغدير”: “لقد كان الشيخ الحر العاملي جوهرة متلألئة على تاج الزمان ونقطة زاهرة زاهية على جبين الكرامة والفضيلة. وإذا أردت التحقيق عنه تجده ملماً بكل الفنون والفضائل وأن الكلام يعجز عن وصفه وتعريفه وكان تجسيدا” للعلم والأدب ونبراس التقوى والفضيلة وقد دون الكتب الروائية القيمة في إثبات الإمامة ونشر فضائلهم وقد جمع الروايات في الأحكام الفقهية ومديحهم ومنزلتهم الربانية وقد خلده آثاره.”
وكذلك يصفه المحدث القمي بشيخ المحدثين وأفضل المتبحرين، العلم النبراس والفقيه الذكي والمحدث التقي والجليل الفاضل الثقة ومنهل الكرامة والفضيلة وله المؤلفات القيمة.
يبدو مما كتبه أرباب معاجم التراجم أن الشيخ الحر كان يتمتع بشهرة مميزة في الأوساط العلمية والاجتماعية وكانت له مكانة مرموقة أينما حل ونزل وكان موضع احترام الطبقات في البيئات المختلفة، وقد أعطي منصب التدريس في الحضرة الشريفة في القبة الكبيرة الشرقية مكان السيد حسين بن محمد بن أبي الحسن الموسوي العاملي هو مكان كان يختص بأكبر المدرسين في مشهد الإمام الرضا(ع) والمقدم على علماء خراسان.
وفاته
توفي في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1104هـ وصلى عليه أخوه العلاَّمة الشيخ أحمد صاحب الدر المسلوك تحت القبة جنب المنبر واقتدى به الألوف من الناس ودفن في إيوان حجرة من حجرات الصحن الشريف ملاصقة لمدرسة المرحوم الميرزا جعفر وهو اليوم مشهور يزار وعليه ضريح صغير من الصغر يقصده المؤمنون بقراءة القرآن والفاتحة والتبرُّك به.