الإنسان والعلم والقلم
قال الله تبارک و تعالى: (ٱلرَّحۡمَٰنُ * عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ * عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ).
لقد قدّم اللّه سبحانه وتعالى تعليم القرآن على خلق الإنسان، لما له من الجلالة والعظمة والأهمية، إذ هو مفتاح الهداية، وباب العلوم، وبه تكون الدعوة إلى اللّه تعالى، ثم جاء ذكر خلق الإنسان. وأشار سبحانه إلى واحدة من خصائصه، وهي: البيان، أي: قدرة الإنسان على الإفصاح والتكلم عمّا في داخله وضميره، وليس المعنى: أنه تعالى علّمه اللغة، بل ألهمه قدرة البيان عمّا في داخله، تارة يكون بواسطة اللسان، وأخرى بواسطة القلم. أي: إنه ألهمه، وأودع فيه قدرة الكشف، والإظهار لما يريد إظهاره. وفي آية أخرى، قال تعالى: (عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ). وهو الكشف عن النوع الثاني من البيان، والذي هو مدار بحثنا. فإن اللّه تعالى أعطى للإنسان قدرة الكتابة والتدوين بالقلم، فالقلم هو سبب لتدوين وكتابة العلم، والأخير سبب لتقدم الإنسان، وتصحيح ارتباطه باللّه عزّ وجلّ، وسبب لحصول المعرفة لديه؛ إذن كان السبب الأول هو القلم.
نعم، قد يقال: إنّ العلم لا يتوقف على القلم. وهو أمر مسلّم، ولكن لولاه لما حصلنا على الصحف الخطية الأُولى، للأجيال التي مضت، فنحن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولو لم نعلم أين انتهوا، لم نعلم من أين نبدأ، بل لكلّفتنا البداية الشيء الكثير من العمر والجهود، ولولا وجود الصحف الخطية للعلماء، لما علمنا قيمتهم العلمية، أو مستواهم العلمي، ورتبتهم في المجتمع، ولضاعت جهودهم. ولذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «اكتُبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا». فالكتابة سببٌ للحفظ، ثم إنه حتى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان قد وضع كتّاباً للوحي يكتبون القرآن، نعم، الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان يحفظ القرآن، ولكنّه كان يأمر بالكتابة، لكي توزع هذه الصُّحف في مشارق الأرض ومغاربها، وكذلك لكي تحفظ إلى الأجيال اللاحقة، وإلى هذا المعنى وغيره أشار الإمام الصادق (عليه السلام)، حينما قال: «اُكتُب وبُثّ علمك في إخوانك».
فالكتابة أمر ضروري جداً وهي سبب أساسي في إيصال المعرفة والعلم والمفاهيم إلى الآخرين، ولذلك ابتدأ القرآن بذكر القلم؛ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، في فضل الكتابة والقلم: «رسولك ميزان نبلك، وقلمك أبلغ من ينطق عنك».
وقال (عليه السلام) أيضاً: «عقول الفضلاء في أطراف أقلامها».
إذن كما كانت اللّغات علّة وواسطة لنقل الأفكار وتلاقحها، فإن للقلم والكتابة الدور الرئيس في هذا النقل، ومما لا شك فيه أنّ الكتابة مؤثرة في الإنسان كتأثير الكلام فيه، ولو لم تكن كذلك لما استقبلها الإنسان، ولما تعامل بها، حيث كان لها الأثر البالغ في هداية الناس إيجاباً، كما في آيات القرآن، والأحاديث الشريفة، وقصص الأنبياء، ومكارم الأخلاق، والكتب الدينية التربوية الأخرى… ومقابل ذلك يوجد نوع من الكتابة يؤثر على الإنسان سلباً، ككتب الضلالة والرذيلة، وكذلك بعض القصص البوليسية التي أثّرت على الناس، وأدّت إلى ارتفاع مستوى الجريمة، لا سيّما في الدول الأوروبية والغربية، وأثّرت الكتابات الفكرية المادية والمنحرفة في توجيه الشباب إلى غير جادة الحق والمنطق، إذن الكتابة لها الأثر الفعّال إيجاباً وسلباً في كل عصر، ومن هنا يأتي دور المفكرين والمصلحين، لتهذيب الناس وإرشادهم إلى النافع من الكتب والمؤلّفات لئلا تؤثر على حياتهم سلباً….
من وسائط الهداية
يضرب اللّه عزّ وجلّ مثالاً من خلال عرضه لقصّة سليمان (عليه السلام) مع ملكة سبأ (بلقيس)، فلما أخبره الهدهد بوجود قوم يعبدون الشمس من دون اللّه كما جاء في الكتاب العزيز: (فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۢ بِنَبَإٖ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ * وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ…) وعند ذلك قرّر النبي سليمان (عليه السلام)، أن يكتب لهم ـ أولاً ـ كتاباً، يدعوهم فيه للتوحيد، وعبادة اللّه، وعدم التَعالي على ذلك، فأرسل كتابه مع الهدهد: (ٱذۡهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَيۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا يَرۡجِعُونَ). وفعلاً، فقد قام الهدهد بإيصال كتاب النبي سليمان (عليه السلام) إلى ملكة سبأ، فعندما قرأته: (قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ إِنِّيٓ أُلۡقِيَ إِلَيَّ كِتَٰبٞ كَرِيمٌ). فأول ما قالته: أنها وصفت الكتاب بأنه كريم، فقد عظّمته، لأنه كان من سليمان، وعظّمته لأنه كان يحمل معاني عالية وشريفة، فأثر بها، مما جعلها تصفه بالكرم، لأن الوثنيين كلّهم قائلون بوجود اللّه تعالى، ولكنهم يتخذون أرباباً وآلهة متعددة، يتقربون من خلالها إلى اللّه عزّ وجلّ. ومن أجل ذلك فعندما رأت الملكة محتوى الكتاب: (إِنَّهُۥ مِن سُلَيۡمَٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * أَلَّا تَعۡلُواْ عَلَيَّ وَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ). ووجدت ما يحمل هذا الكتاب من معاني شريفة، حيث ابتدأ بالبسملة وذكر اللّه عزّ وجلّ، ثم دعوة سليمان (عليه السلام) لهم إلى الدخول في ولاية اللّه عزّ وجلّ. فكانت هذه المعاني المقدسة من عوامل هداية ملكة سبأ إلى اتباع سليمان، وتوحيد اللّه عزّ وجلّ. فهذا نموذج قرآني يشير إلى أهمية الكتاب، ولا سيما عندما تكون هادفة، وتدعو للحق والصراط القويم.
ولقد شهد التاريخ الإسلامي هذا اللون من التبليغ، حيث كانت البلاد الإسلامية مترامية الأطراف بعيدة المدن، تفصلها مسافات شاسعة، فكانوا يستعينون بالكتابة لإيصال الأفكار. فكان اتباع الأئمة (عليهم السلام) وغيرهم يكتبون اسألتهم واستفساراتهم، على هيئة (رسائل) ثم يبعثون بها إلى الأئمة (عليهم السلام). وكان الأئمة (عليهم السلام) يجيبون عليها، ثم يرسلونها إليهم، ولقد شهدت حركة الرسائل هذه نشاطاً ملحوظاً، وبخاصة في عصر الإمام الرضا (عليه السلام)، وما بعده من الأئمة (عليهم السلام)، حيث كانت السلطات الحاكمة تفرض حصاراً على اتباع أهل البيت (عليهم السلام)، من الالتقاء بالأئمة، والتزود بعلومهم، فقد اتخذ الأئمة (عليهم السلام) أسلوب الرسائل في نشر العقائد الحقّة، والإجابة على الشبهات، وردود بعض المسائل الفقهية، والدعوة إلى التمسك بالأخلاق والتقوى، وغيرها من الدعوات التبليغية، التي قام بها الهداة (عليهم السلام) عبر القلم، بل نجد أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يُعلّم أصحابه وعمّاله في الأمصار كيفية الكتابة والخط، فيقول: «افتح برية قلمك واسمِك شحمته وأيمن قطتك يجد خطك»، ويقول (عليه السلام) أيضاً: «إذا كتبت كتاباً فأعد فيه النظر قبل ختمه، فإنما تختم على عقلك»، ويقول (عليه السلام): «قلمك أبلغ من ينطق عنك»، وغيرها من الكلمات التي سطرها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) في فضل القلم والكتابة والدعوة لهما.
كيفَ نَبْدأ؟ وماذا نكتب؟
من المفروض والضروري لكلّ إنسان يريد أن يصبح كاتباً أن يحصن نفسه، ويزودها بخزين ثقافي واسع، يكون بمثابة الركن الوثيق، والحجر الأساس الذي يتكئ ويعتمد عليه في كتاباته المختلفة وحريّ به أن يمتلك إرشيفاً كبيراً من المعلومات، التي تخص الباب الذي يكتب فيه، حتى تكون لدية إحاطة بالموضوع الذي يريد الكتابة عنه. وبالنتيجة سوف تكون كتاباته ذات شمولية تستوعب كافة ما يتعلق بالموضوع، وتكون مثمرة منتجة. إذ أنّ الموسوعة الثقافية والمعلوماتية سوف تحصن الكاتب من مرض التقليد، أو سرقة النصوص من الآخرين؛ لأن عادة الإنسان إذا كان مقتدراً في مجال مّا، فإنه لا يعمد إلى الزيف والتزوير في ذلك المجال. أمّا الإنسان غير المقتدر، فإنه دائماً يركن إلى سرقة النصوص من الغير أو تقليدهم. وهناك نقطة مهمة، يحسن الإشارة إليها، هي: أن ضخامة المعلومات، وسعة الاطلاع، تكون ضرورية ومهمة، في كل موضوع يريد الكاتب الكتابة عنه، ولكن في المواضيع والأفكار المهمة تزداد هذه الأهمية أضعافاً مضاعفة، مثلاً: إذا أراد الكاتب أن يكتب عن موضوع غلاء الأسعار أو ما شاكل ذلك، فإنه بلا شك يحتاج إلى سعة اطلاع في هذا المجال. وسعة الاطلاع والمعلومات التي يجب أن يحملها الكاتب تتضاعف، وتكون ضرورة ملحة، إذا أراد الكاتب أن يكتب حول موضوع حساس، ومهم جداً.
ومن هنا يجب على الكاتب الإسلامي أن يكون بمستوى الأفكار الإسلامية العظيمة فالإسلام يريد أن تعيش الإنسانية حياةً هانئة مطمئنة، ويسلك الإنسان مسلكاً إنسانياً، خالياً من الانحرافات، والأعمال المشينة واللاأخلاقية، في الوقت الذي عمَّ فيه الانحراف المعمورة وعشعشت بها الأفكار التضليلية.
إذن لتكن البداية بكثرة المطالعة للمؤلفات والمصادر والنشرات، والمناهج التي تعلّم كيفية الكتابة وأساليبها وطرقها، والاعتماد على النفس، وشحذ الهمم، والتوكل على اللّه تعالى وطلب العناية والتسديد منه تعالى.
أما ماذا نكتب؟ فهذا يبقى على ما تفرضه طبيعة المرحلة التي نعيش فيها؛ إذ أنّ الاسلام جاء متكاملاً، ووضع في مصادره، من الكتاب والسنّة، كل ما يحتاجه الإنسان والأمة. ولكن فعل المؤامرات الخارجية، والتضليل الإعلامي، والتطبيق الخاطئ لمبادئ الإسلام من البعض، جعل المرحلة تفتقد تلك الحيوية والخصوبة. وإنّ من تلك النماذج المصادرة: أن الأمة الواحدة صارت أمماً متجزئة متناثرة. ومنها: أن الإنسان الحرّ المنطلق الذي أوجده الإسلام صار مكبّلاً ومقيداً ومنها: أن مقياس التقوى الذي جعله القرآن الكريم مقياساً للكرم والفضل بقوله سبحانه: (إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ). هذا المقياس بات اليوم هو القوم واللغة والنعرات الطائفية. ومن هنا يفترض في الكاتب أولاً أن يحمل خزيناً واسعاً من المعلومات، وثانياً: عليه أن يكتب في المسائل الحيوية، التي تهدف إلى استنهاض الأمة من جديد، ورسم القدوة لها استناداً إلى سيرة نبيها العظيم (صلى الله عليه وآله)، وأئمتها المطهرين (عليهم السلام)، وإيصال المفاهيم الإسلامية وتعاليم الإسلام السمحاء إلى أقصى نقطة في العالم، لتبديل الفكرة السلبية التي روّجها أعداء الإسلام، عن الإسلام والمسلمين، وتوضيح الغموض السائد اليوم حول الإسلام وتعاليمه. ومما لا شك فيه أنّ الدين الإسلامي دين السلام والحرية، والأخلاق الفاضلة، والعلم والتقدم، وفوق هذا كله، فهو دين الفطرة السليمة. والشاهد على ذلك: أن الدين الإسلامي ما وصل إلى بقعة من الأرض إلّا واعتنق أهلها الإسلام طواعية، إلّا المعاندين والمغرضين، فهؤلاء عرفوا الحق وانحرفوا عنه.
أثَرُ الإعْلام
ذكرت مجلة لبنانية: بأنّ اسرائيل تصدر وتطبع، من المجلات والجرائد والكتب، بقدر ما تطبعه جميع الدول العربية، التي يبلغ عدد سكانها مجتمعين أكثر من مائة وخمسين مليون مسلم، بينما يبلغ نفوس اليهود في إسرائيل ثلاثة ملايين فقط. ولهذا السبب وغيره انتشرت أفكارهم الضالّة والمنحرفة في كل مكان، لأنهم يعملون بالأسباب والمقدمات بجدّ، فيصلون إلى غاياتهم، وإن كانت سلبية، مع أنهم لا يمتلكون الإيمان الذي يمتلكه المسلم. وقد يقال: بأن الإيمان يعلو وينتصر على جميع المخططات والأهداف الاستعمارية؟ نعم، هذا صحيح، ولكن لا ينفع الإيمان بدون العمل. إذ لا بدّ من مزج العمل بالإيمان، لكي يكون الإيمان كاملاً ونافعاً. ففي عصرنا الحاضر، تحتل الصحف مكانةً بارزة في أوساط المجتمعات، ولها التأثير الفعّال في تغيير الأفكار، وخلق اتجاه فكري معيّن، يحمله بعض المواطنين دون أن يشعروا بذلك. فمن هنا نلاحظ أهمية القلم، وتأثيره على رفعة الإنسان أو هبوطه إلى مستوى الجهل. فمثلاً الكتاب الإسلامي الذي يحمل أفكاراً بناءة يشكل خطراً على الحكومات التي تضلّل شعوبها، فهو سبب لهداية الكثير من الناس، ودخولهم إلى حظيرة الإسلام، كما كان الحال ـ وما يزال ـ بالنسبة إلى كتاب (المراجعات)(16)، صاحب الأثر العظيم في نشر أفكار أهل البيت (عليهم السلام)، حيث أدّى كتابه هذا إلى رجوع الكثير من أبناء العامة إلى الطريق الصحيح في العقيدة والعمل، بعدما أماط لهم الحجاب عن الوجه الناصع لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وفكرهم الحقّ الوضّاء.