بعد أقل من شهر على بدء حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، نشر عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي، ديدييه فاسّان (1955) في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، مقالاً على موقع “تحليل، رأي، نقد” الفرنسي بعنوان “شبح الإبادة في غزة”، أوضح فيه أن رغبة “إسرائيل” في القضاء على “حماس”، التي وصفها خبراء بأنها أمر غير واقعي، تمثلت بشكل أساسي في المجزرة والإبادة ضد المدنيين.
وعمل فاسّان على المقارنة بين الإبادة في غزة وإبادة “شعب الهيرو” في جنوب غرب أفريقيا (التي ستعرف لاحقاً بناميبيا) من قبل القوات الإستعمارية الألمانية بين عامي 1904 و1908.
ويحاجج عالم الاجتماع الفرنسي ضمن أفق السوسيولوجيا الأخلاقية، أن الإبادة في غزة تمتحن الضمير الغربي وكل إرثه المرتبط ومقولاته الكبرى المرتبطة بحقوق الإنسان وحق الشعوب في التحرر، حيث يظهر أن هزيمة الغرب في تعاطيه مع إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، ليست هزيمة سياسية، بل أساساً هزيمة ذات طابع أخلاقي كونها تنزع عن الغرب كل إدعاء بكونية حقوق الإنسان.
فقد ظهر التحيز الغربي غير المسبوق لكيان الاحتلال بعد عملية “طوفان الأقصى”، على قاعدة مانوية تقيم فصلاً قوياً بين نحن المتحضرة وهم البرابرة.
من ناحيتها، تتبنى جوديث بتلر (1956)، الفيلسوفة الأميركية والمتخصصة في الفلسفة السياسية والنوع الاجتماعي، نقداً أكثر راديكالية للتصورات الغربية التقليدية للعنف في الصراعات.
في تفاعلها مع عملية “طوفان الأقصى” تتجنب بتلر، بخلاف نظرائها من المفكرين الغربيين، اعتبار العملية فعلاً “إرهابياً”، بل هو “انتفاضة مسلحة” وشكل من أشكال المقاومة.
ولا تدافع بتلر عن هذا الموقف من منطلق سياسي وإيديولوجي، بل من فلسفة ترى أن فهم ما جرى، لا يمكن أن يحصل، إذا أقمنا فصلاً بين سياق الإستعمار والظلم والتمييز ضد الشعب الفلسطيني منذ عقود، وبين ظهور “حماس” كحركة مقاومة. ذلك أن ما قامت وتقوم به الأخيرة هو رد فعل ضد الاحتلال.
وتمكن هذه القراءة التي تقدمها بتلر التأكيد على أن الأفراد والجماعات لا يتحركون في سياقاتهم السياسية فقط كضحايا، بل أيضاً كفاعلين سياسين لديهم القدرة على المقاومة، وهي فكرة تفند الادعاءات الغربية التي ترى في مجتمعات الشرق الأوسط، بمن فيهم الفلسطينيين، مجرد ضحايا لتاريخ من الإستعمار الإمبريالي.
وكثيراً ما تسعى سلطة الخطابات الغربية المهيمنة إلى فرض هوية سياسية واحدة حول مجتمعاتنا واختزالها في مقاربات ثقافوية، تركز على القمع الديني والاستبداد السياسي والتمييز ضد النساء، متجاهلة ديناميكيات المقاومة والقدرة على الفعل حتى ضمن موازين قوى مختلة.
حرب غزة والتصدّع داخل الأكاديميا الغربية
خلق التعاطف المعرفي مع سكان غزة تصدعاً وتعارضاً فكرياً داخل الجسم الأكاديمي الغربي وصولاً إلى حقل العلوم الإنسانية. تصدع يعكس حركية النقاش الفكري في الغرب، لكنه يشي أيضاً بالنظرة الكولونيالية التي لا تزال مكوناً أساسياً من مكونات النماذج المعرفية في الغرب.
من داخل هذا النقاش، ترى عالمة الاجتماع، إيفا إيلوز (فرنسية من أصل إسرائيلي) أن الخطابات الفكرية ذات الخلفية اليسارية التي تتعاطى مع العدوان على غزة، “تمثل انحرافاً في الخطاب الأكاديمي اليساري” الذي صار يذهب، برأيها، نحو تطبيع الكراهية ضد اليهود.
وتقول إيلوز (1961) إن المواقف مثل تلك التي يتبناها فاسّان وبتلر تضفي شرعية على أفعال عنيفة تحت ستار “المقاومة المسلحة”، كما في 7 أكتوبر 2023.
وتذهب إيلوز إلى أن تحليلات بتلر “تستبعد العنف الجنسي الممارس ضد النساء الإسرائيليات من قبل حركة حماس، والذي تم توثيقه بشكل واسع”، علماً أن هذا الإدعاء ثبت كذبه مراراً.
وتعتبر إيلوز أن “هذا الموقف يعكس أزمة فكرية وأخلاقية في اليسار الحديث، الذي يبدو متسامحاً مع أفعال تتجاوز الأخلاقيات الكونية، وتركن إلى معاداة مريحة للسامية”.
هذه الرؤية التي تتبناها إيلوز وغيرها، والتي تطابق بين انتقاد “إسرائيل” ومعاداة السامية، باتت تشكل عائقاً أمام الحريات الأكاديمية في الغرب، الأمر الذي دفع جامعة كولونيا إلى التراجع عن دعوة لاستضافة الفيلسوفة الأميركية والناشطة النسوية، نانسي فريزر، بسبب موقفها من العدوان على غزة.
وربطت الجامعة بين قرارها وبين توقيع فريزر على رسالة مفتوحة بعنوان “الفلسفة من أجل فلسطين'” في تشرين الثاني/نوفمبر 2024. إذ وضعت فريزر موقفها من الحرب على غزة في إطار أوسع يتعلق تحديداً بتحليلاتها حول العدالة الاقتصادية والحقوق السياسية.
وهي تركز بشكل دائم على العلاقة بين القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في السياق الدولي، مما يجعلها تتبنى موقفاً نقدياً تجاه الهيمنة الإمبريالية والعنصرية. حيث ترى أن الحرب التي تشن على غزة جزء من نظام عالمي لا يعترف بالعدالة الاجتماعية، ويقلص دائرة الحقوق الإنسانية رغم إدعاءات السردية الغربية التي بنيت على مقولات حقوق الإنسان.
هكذا، لا يعود النظر إلى الحرب على غزة خارج السياق الاقتصادي والسياسي الأوسع، حيث ترى الفيلسوفة الأميركية أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين جزء من معركة أوسع تتعلق بالهيمنة الاقتصادية والسياسية في المنطقة. إذ تسعى القوى الغربية، بما في ذلك “إسرائيل”، إلى الحفاظ على مصالحها الاقتصادية على حساب حقوق الفلسطينيين.
كما ترى فريزر وجوب رفض المواقف التي تفهم الحرب على غزة على قاعدة صراع بين طرفين متساويين، مشيرة إلى أن هيمنة “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية واستمرار الاستيطان، يعكس حالة من الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه الفلسطينيون.
وتمثل هذه الهيمنة استمرار للكولونيالية التي تهدف إلى استغلال الموارد والسيطرة على الأراضي. من هذا المنطلق تدافع فريزر، كما هي حال مفكرين في التيارات النقدية، عن ضرورة التفريق بين معاداة السامية وبين معاداة الصهيونية، وعدم الخلط بين نقد سياسات “إسرائيل” وبين معاداة اليهود كجماعة دينية. وعليه، تقول فريزر، إن النقد السياسي للصهيونية يجب أن يكون محمياً بموجب حرية التعبير.
تهمة “الويكيزم” أو الرغبة في نزع التسييس
تبرز في الغرب اليوم حركة نقدية، تدعى “حركة اليقظة” أو “الويكيزم”، تسعى إلى معالجة القضايا الاجتماعية من وجهة نظرية العدالة الاجتماعية. وهي حركة تدين الأنظمة الإستعمارية والعنصرية وتدافع عن حقوق الأقليات والمهمشين.
من هذا المنطلق، ينظر أعضاء هذه أنصار الحركة إلى أن ما جرى في غزة يجب أن يفهم باعتباره جزءاً من نضال الفلسطينيين ضد الهيمنة الإستعمارية الإسرائيلية، وبالتالي يجب وضع العدوان على القطاع في إطار مقاومة الإستعمار والعنصرية.
ويرى الناشطون داخل هذه الحركة الفكرية أن الفلسطينيين في غزة يعاملون كمجموعة مهمشة تحرم من حقوقها الأساسية.
على هذا الأساس توجه تهمة “الويكيزم” كل من ينتقد “إسرائيل” داخل الأكاديميا الغربية سواء كانوا طلاباً أو أساتذة أو ناشطين في حركات اليسار الجديد، وذلك من خلال اعتبار رؤيتهم أحادية أو مسيسة للحرب على غزة. إذ يعتقدون، عبر وصم “الويكيزم”، أن التفسيرات المناهضة لـــ “إسرائيل” لا تأخذ في الاعتبار التعقيدات الأخرى مثل “الإرهاب” وبقية التهديدات التي تمثلها الفصائل الفلسطينية المسلحة مثل “حماس”، والتي يتم التعاطي معها من قبل اليمين الأكاديمي من زاوية الإسلام السياسي وتهديداته لنموذج الحياة الليبرالية.
كما يرى الكثير من مفكري اليمين في أوروبا أن التعاطف مع الفلسطينيين يدخل في باب “التعاطف الإنتقائي” متجاهلاً تعقيدات الواقع.
في الحقيقة تخفي الانتقادات التي وجّهت للمدافعين عن غزة في الجامعات “مأزق الغرب” في التعاطي مع قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق الإنسان، وهي عدم قدرة المجتمعات الغربية على بلوغ توافق نهائي حول القيم الأخلاقية الكبرى التي انبنت عليه سردية الحداثة الغربية منذ القرن الثامن عشر، والتي روّج لها على نطاق واسع عبر الإستعمار أو العولمة واقتصاد السوق النيوليبرالية.
الجامعة محرك للصراع.. والأكاديميا العربية خارج النقاش
تُظهر النقاشات الأكاديمية في أوروبا حول الحرب على غزة أن الجامعات تعبر عن انقسامات حادة في المجتمعات الغربية تتراوح بين الرغبة في التزام الحياد وتحقيق العدالة، وبين الدفاع عن الحرية الأكاديمية والخضوع للضغوط السياسية، ومع هذا يظل النقاش متجذراً في أساسية تتعلق بالأخلاق والقانون والسلطة.
أمام هذا النقاش الذي يعرفه الغرب بخصوص العدوان في غزة، تبقى الأكاديميا العربية غائبة تماماً وغير مؤثرة فيه وذلك لأسباب عدة منها ضعف إتصال جامعاتنا بمراكز النفوذ الفكري والأكاديمي العالمي، علاوة على القيود التي تضعها الأنظمة السياسية والاجتماعية على حرية التفكير والتعبير.
كما أن “الكسل المعرفي” الذي جعل من جامعات المنطقة العربية ناقلاً للمعرفة بدل أن تكون منتجة لها، عائقاً أمام التموقع في النقاش الأكاديمي العالمي حول الحرب على غزة.