إنتصار الدم على السيف

خاص الوفاق: وانتصرت غزة بعد حرب ضروس دامت 466 يومًا، قُتل خلالها حوالي خمسون ألف مدنيًأ من ضمنهم حوالي ثلاثة عشرألف طفلًأ. وتُشير التقديرات إلى أن أكثر من مليون وتسعمائة ألف شخص قد نزح من أصل إجمالي سكان غزة والبالغ عددهم مليونان وثلاثمائة ألف شخص. وأن 90% من المنازل قد تدمرت كليًأ أو جزئيًا أي ما يُقارب 82% من مساحة قطاع غزة، بالإضافة إلى تضرر الكثير من المدارس والمستشفيات والمنشآت الحيوية الأخرى.

2025-02-04
د. رُلى فرحات

 

قالوا ما قلوه لن تحي مجددا غزة فلسطين

 

وأنت أرض القداسة والعزة والرياحين

 

أهلك على ركام منازلهم بالحمد ساجدين

 

لم يقنتوا يوما من رحمة رب العالمين

 

وها هم برايات النصر متفاخرين

 

رغم أنف من تآمر، أهل غزة عائدين

 

وانتصرت غزة بعد حرب ضروس دامت 466 يومًا، قُتل خلالها حوالي خمسون ألف مدنيًأ من ضمنهم حوالي ثلاثة عشرألف طفلًأ. وتُشير التقديرات إلى أن أكثر من مليون وتسعمائة ألف شخص قد نزح من أصل إجمالي سكان غزة والبالغ عددهم مليونان وثلاثمائة ألف شخص. وأن 90% من المنازل قد تدمرت كليًأ أو جزئيًا أي ما يُقارب 82% من مساحة قطاع غزة، بالإضافة إلى تضرر الكثير من المدارس والمستشفيات والمنشآت الحيوية الأخرى.

 

حارب أهل غزة ظلم العدو الغاشم بأجسادهم، وقاوموه بأمعاء خاوية، وصبروا على آلامهم وعلى وحشية وهمجية العدو الصهيوني الذي وجد بحصار أهل غزة العربي والغربي ملاذًا آمنًا لغطرسته وإجرامه فجاب بحلاها وبرها وجوها، واستخدم مختلف أنواع الأسلحة المُحرّمة دوليًا والتي تحمل المواد السامة والحارقة.

 

عدو لا يعترف بمواثيق دولية ولا شرائع حقوقية ولا معاهدات إنسانيّة. لم يُوفّر المرضى داخل المستشفيات ولا في باحاتها، وقتل الصحفيين والإعلاميين، وجزّر في الأطفال والنساء

 

466 يوم والعالم ينظر إلى بسالة مقاومي هذا الشعب، ويشاهدون عزيمة النساء والشيوخ، بل ويستمعون إلى عُمق عبارات الأطفال وخطاباتهم التي تُبكي الحجر وتزرع في النفوس الدهشة من صلابتهم ورباطة جأشهم.

 

من قلب الدمار، حيث تحولت الأرض إلى حطام والسماء إلى ظلام شاسع، نهضت غزة كطائر الفينيق من رماد المأساة بل الفاجعة، لتعلن للعالم بأسره أن فلسطين لم تمت ولن تموت. إنها قصة أمة تحارب الاضطهاد بصبر الأنبياء، وتقاوم الاحتلال بعزيمة لا تنكسر، وتعيد كتابة التاريخ بدماء شهدائها وصمود أبطالها، فالمجد لك غزة!

 

غزة، تلك البقعة الصغيرة في جغرافيا العالم، لكنها الواسعة في وجع ضمير الإنسانية، وقفت شامخة في وجه العدوان رغم كل محاولات العدو لطمس معالمها ومحو إرادتها. بل أنّها في كل مرة تشتد بأسًا وقوة، كيف لا ويولد أطفالها من أرحام أمهات صابرات تُرضعهم مقاومة وكرامة فيُصبحون رجالا أشداء على الكفار رحماء فيما بينهم. كيف يمكن للعدو أن يفهم أن الأرض ليست مجرد تراب وبحر وهواء، بل هي ذاكرتنا وحياتنا، هي كرامة وعزة وشرف ووجدان؟. وكيف يمكن لهذا المجرم أن يفقه بأن الغزاوي الذي يفقد منزله يبني خيمةً من الأمل، وأن من يفقد أبناءه ينجب فكرةً لا تُهزم؟

 

466 يومًا من الحرب الضروس لم تكن سوى جزء من ملحمة طويلة يعيشها أهل فلسطين منذ عقود. تاريخ غزة هو تاريخ فلسطين بأسرها، تاريخ الشعوب التي ترفض الإنكسار، ولا يعرف قلبها الوهن، ولا يوجد في قاموسها مفردة إستسلام. حين طُرد الشعب الفلسطيني من أرضه عام 1948، وحين حوصر في مخيمات اللجوء، كانت غزة حاضرة كرمز للكرامة. هي التي قاومت الحصار الجائر لأكثر من 17 عامًا، إذ حوصر فيها الناس، ولكن لم تُحاصر فيها الإرادة ولن تُحاصر أبدًأ.

 

حين تنهار المنازل فوق ساكنيها، يبقى صوت التكبير من بين الأنقاض أقوى من أزيز الطائرات. حين فقد الأطفال ألعابهم، رسموا أحلامهم على الجدران المهدمة. حين انقطعت الكهرباء، أضاؤا بيوت القلوب بنور الإيمان. أهل غزة هم أولئك الذين يحاربون الظلم بأيديهم العارية، الذين يزرعون الأمل وسط الخراب، ويعلمون العالم أن البقاء للأقوى ليس بقوة السلاح، بل بإرادة لا تعرف المستحيل.

 

وفي تاريخ فلسطين، تُعيد غزة اليوم ذاكرة دير ياسين، وكفر قاسم، وصبرا وشاتيلا. ما أشبه الأمس باليوم! عدوهم واحد، لكنه يجهل أن الفلسطيني يولد من جديد كلما حاولوا قتله.

 

لعل من أبرز مشاهد البطولة في غزة كانت المرأة الفلسطينية، التي تحمل على كتفيها مسؤولية الحفاظ على الحياة وسط الدمار. تستبدل دموعها بابتسامة قهرية وهي تودع أبناءها الشهداء، ثم تعود لتزرع القوة في قلوب الأحياء لتعيد بناء ما تهدم في الأرواح قبل الحجر.. إن المرأة الفلسطينية في غزة حاضرة في كل ميادين المقاومة. فهي الأم التي تُربي أطفالها على حب الوطن، تزرع فيهم القيم وتُشعل نار النضال في قلوبهم. وهي الزوجة التي تتحمل أعباء غياب زوجها الذي غادر للدفاع عن الوطن، فتولت دور الأم والأب، تُدير المنزل وتُصون الأسرة وتحفظها رغم كل التحديات إذ هي القادرة على تولي مسؤوليات النزوح وأعبائه لتحمي أطفالها من مكان لآخر. كانت ولا تزال شريكة في كل تفاصيل النضال، تُقاوم بصبرها وقوة عزيمتها. هي التي تحوّلت من رمز الحنان إلى أيقونة الصمود.

 

وعلى مستوى العمل الوطني، كانت المرأة الفلسطينية ناشطة بارزة في خطوط الدعم الخلفية، تُشارك في إعداد الطعام للمقاومين، وتُؤمن لهم المؤن، وتصنع الرايات التي يُرفع بها صوت الكرامة. كما برزت كطبيبة تُداوي الجرحى، وممرضة تُعيد الأمل للمصابين، ومعلمة تُزرع الحروف في عقول الأطفال وسط دوي القنابل.

 

ولم تقتصر مشاركتها على الأدوار التقليدية، بل كانت أيضًا في الصفوف الأمامية، تُشارك في التظاهرات، وترفع صوتها ضد الاحتلال، وتجابه العدو بصلابة تذهل العالم، كيف لا، وهي مصدر الإلهام والقوة، تُغذي النفوس بالصبر والإيمان، وتبعث الأمل في قلوب من حولها. تُلخّص في صبرها وكفاحها حكاية وطن بأكمله، وطن يأبى الانكسار رغم كل ما يواجهه. إنها مدرسة للمقاومة، لا تكتفي بالصمود وحدها، بل تُورثه لمن يأتي بعدها، فهي تحمل الحجارة بيد، وتُمسك طفلها باليد الأخرى، لتقول للعالم إن غزة لا تموت وإن فلسطين باقية رغم أنف الاحتلال.

 

في مقابل هذه البسالة، كان المشهد العالمي مزيجًا من التضامن الشعبي والتخاذل الرسمي. من كل زاوية في العالم، خرج الأحرار يهتفون لفلسطين، ورفعوا أصواتهم ضد الظلم، افترشوا الأراض وتظاهروا، ندووا بالكلمة والفنون والرسم والأغاني والأناشيد. وآخرون حملوا سلاحهم وشكلوا جبهة إسنادٍ – محور المقاومة اللبنانية والعراقية واليمنية الذي يأبى الظلم ويسعى أبدا للحرية غير آبه بالتداعيات، ألسنا حق؟ لإن لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا.

 

لكن في أروقة السياسة، كان الخذلان حاضرًا بقوة. الحكومات الغربية التي تدّعي حماية حقوق الإنسان، غضّت الطرف عن الجرائم اليومية التي يرتكبها الاحتلال بحق المدنيين، بل كانت الشريان الرئيسي الداعم بالمال والعتاد والحاجيات لتستمر هذه الحرب دون رحمة.

 

التاريخ لا ينسى، والأجيال القادمة ستتذكر جيدًا كيف صمدت غزة، وكيف حملت على أكتافها عبء المقاومة مع الشركاء لإعلاء صوت الحق، كما ستتذكر تواطؤ أولئك الذين جلسوا على طاولات القرار وباركوا جرائم الاحتلال بصمتهم الظاهر وبدناءتهم المبطنة إمّأ خوفًا أو طمعًا بمكاسب على دم الأبرياء.

 

في تاريخ فلسطين، لطالما كانت المقاومة عنوانًا للصمود. فمن ثورة البراق عام 1929 إلى الانتفاضتين العظيمتين، كانت روح المقاومة تتوارثها الأجيال. غزة اليوم تكتب فصلًا جديدًا من هذه السلسلة الطويلة. فصلٌ عنوانه “النصر بإرادة الشعوب”. فغزة أصبحت رمزًا يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، ليصبح جزءًا من وجدان الأمة.

 

إنتصار غزة لم يكن فقط انتصارًا عسكريًا، بل كان انتصارًا للكرامة الإنسانية، ورسالة للعالم بأن فلسطين ليست قضية عابرة في تاريخنا العربي والإسلامي، بل هي أصل الوجود والهوية. مع كل قذيفة تُطلق على غزة، تتجدد الروح الثورية في قلوب الشعوب العربية الحرة المقاومة التي ترفض الخضوع وتأبى إلا أن تعيش بكرامة وعزة، ترفع شعار “لقد خيّرنا بين السلة والذلة وهيهات منّا الذلة”

 

ويبقى السؤال الأهم: ماذا بعد النصر؟ هل يكون هذا الانتصار نقطة انطلاق نحو تحرير الأرض كاملة؟ أم أننا سنشهد مرحلة جديدة من التحديات؟

 

غزة تحتاج الآن إلى بناء الإنسان كما تحتاج إلى بناء الحجر، إلى إعادة إعمار النفوس قبل الجدران. غزة تحتاج إلى ضمير حي ومساندة خاصة في وقت يُحاك ضدها الكثير من المؤامرات وعلى رأسها تهجير أهلها إلى الأردن ومصر، لتُصبح أرضًا فارغة ويستولي العدو على ما لم يستطع أخذه بقوة السلاح.

 

غزة ليست مجرد مدينة، إنها فكرة. وفكرة المقاومة لا تموت. كيف يموت شعب يزرع أحلامه على أرض مروية بدماء الشهداء؟ كيف تنهزم أمة ما زالت قلوبها تنبض بحب الوطن والإيمان بالحق؟ غزة انتصرت لأنها تعلّمت من تاريخها أن الهزيمة تبدأ حين نستسلم، وأن النصر ليس في عدد الضحايا، بل في بقاء الفكرة حيّة.

 

في النهاية، ستبقى غزة شاهدة على أن الشعوب التي تؤمن بالحرية لا تُقهر. ستبقى تُلهم العالم بأسره بأن النضال من أجل الحق هو أعظم صورة للإنسانية. غزة لم تنتصر فقط على العدو، بل انتصرت على اليأس، على الحصار، على التخاذل. لقد انتصر الدم على السيف.

 

ختامًا، غزة قالت كلمتها: “أنا الحياة التي تنبض رغم الموت، أنا العزة التي لا تخضع رغم الحصار، أنا الأرض التي تكتب تاريخًا لا يمحوه الزمن، ولن يستطيع تدنيسه البشر”.

 

غزة، يا زهرة فلسطين، ستبقين منارة العزة ومصدر الفخر لكل أحرار العالم.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص