على المقهى الثقافي في قلب القاهرة...

الهجرة من معرض الكتاب إلى سور الأزبكية

يذكر الأديب المصري سليمان فياض أن الرئيسين السابقين جمال عبد الناصر وأنور السادات كانا يترددان على سور الأزبكية لاقتناء الكتب، وأطلق سليمان على مكتبات السور لقب "جامعة الفقراء" لما تزخر به من أمهات الكتب والمجلات والصحف القديمة التي تُؤرخ لتاريخ مصر والعالم، وكانت كتبه المصدرَ الأوّلَ للكُتّاب والمفكرين بقلب القاهرة، ولا ينافسه في ذلك سوى ضفاف نهر السين بالعاصمة الفرنسية.

2023-02-04

وبقي سور الأزبكية معرض الكتاب الدائم في مصر حتى تأسيس معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، الذي يعد من أكبر معارض الكتاب في الشرق الأوسط، وثاني أكبر معرض بعد معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، ويزوره حوالي مليوني شخص سنويا.

وبالرغم من الظروف السياسية والاقتصادية الحالية، يشهد معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام مشاركة ما يقرب من 1047 ناشرًا مصريًّا وعربيًّا وأجنبيًّا من 53 دولة، ووقع الاختيار على المملكة الأردنية لتكون ضيف شرف هذا العام.

وفي ظل ارتفاع أسعار الكتب، كان الإقبال على المعرض كبيرا كالعادة، ولكنه إقبال بلا شراء كما وصفه البعض، حيث اقتصر نشاط الرواد على الفسحة وقضاء يوم مع الأهل والأصدقاء بين المقاهي والمطاعم، معلنين حالة من الامتناع الصامت عن شراء الكتب التي بدت أسعارها فوق قدراتهم.

أجنحة بلا رواد

وبدت معظم طرقات دور النشر في صالات (1، 2، 3) بأرض المعارض الكائنة بالتجمع الخامس بالقاهرة، شبه خالية مقارنة بالسنوات السابقة إلا من إقبال على مبادرة كتب للجميع التي أعلنتها وزارة الثقافة، وجناح هيئة قصور الثقافة التي تتراوح أسعار الكتب فيه ما بين 6 جنيهات و40 جنيها.

ومن أول جولة في المعرض تدرك أن أسعار الكتب تضاعفت في كل الأجنحة، واختفت من المشهد الصورة المشهورة عن المعرض في كل عام، حيث العربات الصغيرة تخرج محملة بأكوام الكتب في طريقها للسيارات خارج المعرض، واختفت أيضا صور الطلاب وهم يحملون أكياس وحقائب الكتب، كما أن كثيرًا من قوائم المكتبات سجلت السعر بالدولار وليس بالجنيه، والرواد يسألون عن السعر قبل الشراء.

في صالة (1) برر الناشرون الارتفاع الواضح في أسعار الكتب بالارتفاع الكبير في أسعار الورق والتجهيزات والطباعة، وقال حسن عدنان صاحب دار الفكر السورية، إن ارتفاع الأسعار سمة عالمية لا تخص بلدًا دون آخر، وارتفاع أسعار الكتب ليس منفصلا ًعن بقية أسعار السلع.

“نبيع بأسعار العام الماضي”

رضا عوض صاحب دار رؤية المصرية ينكر الارتفاع في الأسعار ويقول “لم يحدث ارتفاع في الأسعار، إنما الذي حدث هو انخفاض في قيمة الجنيه المصري، والدليل على ذلك أننا نبيع بنفس أسعار العام الماضي بما يوازي قيمة الجنيه الحالية، كل مستلزمات صناعة الكتاب تضاعفت عدة مرات، ولا يخفى على أحد الارتفاع الجنوني في أسعار الورق والأحبار”.

ويقول خالد أبو المعالي صاحب دار الجمل “لا يجب أن نسبق الأحداث والمعرض لم تتبين ملامحه بعد، وإذا كان الإقبال ضعيفاً على شراء الكتب، فهذا يرجع للأزمات التي يمر بها العالم كله، والكتاب سلعة مثل بقية السلع”.

مسؤول بجناح مكتبة الشروق المصرية كان أكثر تفاؤلاً، وقال “ارتفاع الأسعار لم يحرم الناس من تناول 3 وجبات في اليوم، وهو أيضا لن يمنع الناس من القراءة والإقبال على شراء الكتب، قد يقل الإقبال كثيرا أو قليلا، لكن في النهاية جميع دور النشر تحرص على المشاركة في معرض القاهرة لشهرته العالمية، لأن رواده في النهاية ليسوا مصريين فقط، بل عرب وأجانب من معظم دول العالم”.

السور لا يهدأ ولا ينام

في المقابل، كانت مجموعات كبيرة من الشباب تخترق كل الصالات صوب صالة 4 حيث المكان المخصص لمكتبات “سور الأزبكية”، وإن كان المكان المخصص لهم في آخر صالة العرض، فإن حالة من الزحام الشديد تشعر بها مع أول لحظة تدلف فيها من الباب الرئيسي.

51 مكتبة من مكتبات سور الأزبكية شاركت هذا العام في معرض القاهرة الدولي للكتاب بزيادة 10 مكتبات عن العام الماضي، والمساحة المخصصة لكل مكتبة 9 أمتار، وهناك عدد كبير من المكتبات ما يزال على قائمة الانتظار.

مكتبات سور الأزبكية لا تختلف كثيرًا عن غيرها من دور النشر في الصالات الأخرى، إلا في حالة الزحام والإقبال الشديد على شراء الكتب، حيث تبدأ أسعار الكتب من سعر 5 جنيهات وبحد أقصى 40 جنيها للكتاب.

ومثلاً تتراوح أسعار كتب الدكتور عبد الوهاب المسيري والأستاذ محمد حسنين هيكل بين 20 و40 جنيها، فيما بقية كتب العقاد وأحمد أمين ونجيب محفوظ ومصطفى محمود وأحمد خالد توفيق، وغيرهم من الكتاب الكبار تبدأ الأسعار من 10 جنيهات وبحد أقصى 30 جنيها، كما أكد باعة وأصحاب المكتبات بسور الأزبكية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب.

الإقبال كبير على شراء الكتب بكل أنواعها، السعر أقل بكثير من دور العرض، والكتاب الذي يباع في هذه الدور بسعر 200 و300 جنيه، يباع في مكتبات السور بمبلغ 30 و40 جنيها فقط، بحسب أحمد عاطف صاحب المكتبة التي تحمل اسمه.

وأضاف عاطف “زبائننا وعملاؤنا من كل الأعمار ومن بعض الجنسيات الأفريقية، وأسعار كتب الأطفال تبدأ من 5 جنيهات، والمجلدات الدينية والأدبية تبدأ من 20 جنيها، وكتب التنمية البشرية المترجمة أسعارها تتراوح ما بين الـ20 والـ40 جنيها، وأبيع موسوعة الجبرتي “عجائب الآثار” طبعة بيروت بسعر 250 جنيها”.

أسعار مناسبة

أما خالد هاشم صاحب مكتبة هاشم محفوظ، يقول “لدينا كتب الأطفال والأدب والإسلاميات، كتب الأطفال التعليمية والتلوين بـ5 جنيهات، أما روايات نجيب محفوظ فتبدأ أسعارها من 10 جنيهات و20 جنيها، أما روايات الحرافيش والثلاثية وأولاد حارتنا سعرها لا يزيد على الـ30 جنيها، أما أسعار الموسوعات والكتب التاريخية والدينية المتعددة الأجزاء فأسعارها لا تقارن، مثلا موسوعة البداية والنهاية بأجزائها السبعة تباع هنا بسعر 250 جنيها فقط”.

ومن المكتبات المتخصصة في بيع الكتب الأجنبية فقط بسور الأزبكية مكتبة أحمد علي أمين حيث يقول مديرها شريف أمين “أبيع كل الكتب الأجنبية، أدبية وعلمية وأكاديمية، وقصصا للأطفال، وسعر الكتاب يبدأ من 10 جنيهات، ولدينا عرض 6 قصص للأطفال بـ20 جنيها فقط، ويوجد لدينا كل الموسوعات العلمية العالمية، وأبيع ممثلا موسوعة “تشيلد كرافت” (CHILDCRAFT) 16 مجلدا بسعر 900 جنيه فقط، أي أن سعر الجزء أقل من دولارين”.

وعن أهم المصادر التي يستمد منها الكتب الأجنبية حتى يبيعها بهذا السعر الرخيص قال شريف “كثير من الأجانب في مصر يتخلصون من كتبهم بعد قراءتها، وكثير من المؤسسات الأجنبية تتخلص من كثير من كتبها، فضلا عن أنني أستورد كثيرًا من الكتب من بلادها بأسعار رخيصة لأنها قديمة”.

أما أحمد الجنيدي فيشكو من ضيق المساحة المخصصة لكل مكتبة من مكتبات سور الأزبكية، والتي لا تتعدى 9 أمتار، وهذه المساحة لا تكفي 20% من الكتب بالمكتبة، في حين يتم منح نفس المساحة لمكتبة لا يوجد بها سوى 7 روايات في الجناح المجاور، وأسعارنا تبدأ من 5 جنيهات والروايات المترجمة المعروفة ما بين 20 و40 جنيها، وكتب مصطفى محمود ونجيب محفوظ وأحمد خالد توفيق لا يتعدى سعرها الـ20 جنيها.

السعر بالدولار

ومعرض القاهرة الدولي للكتاب هو فرصة سنوية لطلاب الجمعات ينتظرونه من العام للعام لشراء كتب الدراسات العليا والكتب المتخصصة. يقول خالد سامح، طالب بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر، فوجئنا هذا العام بارتفاع كبير في أسعار الكتب لم نتوقعها وليست في إمكانياتنا المادية، ودور النشر تسجل السعر بالدولار، ويتساءل “هل من المعقول أن يكون سعر الكتاب الثقافي ما بين 12، 20 دولارًا في المتوسط، وفيه سعر أقل وسعر أعلى، وبالطبع يكون السعر بالجنيه المصري 360 جنيها و600 جنيه، لهذا أصبح سور الأزبكية هو قبلتنا نبحث فيه عما نحتاجه ونشتريه بربع الثمن تقريبا أو أقل، وأما الكتب الحديثة غير الموجودة بالسور فنشتريها من أجنحة المعرض بالمشاركة، حيث يشتري كل طالب منا كتابًا أو اثنين ونتبادلها فيما بيننا”.

في خارج صالات العرض، كانت هناك صورة أخرى في منطقة المطاعم والكافيهات، حيث تزدحم المنطقة الشاسعة ما بين الصالات بعدد كبير من الرواد، ونادرا ما تجد مقعدًا غير مشغول، ويبدو من التجمعات أنها أسر متكاملة، جاؤوا لقضاء يوم من أيام إجازة نصف العام الدراسي.

كنوز على السور

وبين الجموع قابلنا عددًا كبيرًا من المثقفين المعروفين، منهم سعيد شيمي وعماد العادلي والأديب السوداني أمير تاج السر والروائي إبراهيم عبد المجيد وأحمد عاطف درة وسيد محمود وآخرون، بعضهم يحمل كتبا والآخر لا يحمل شيئًا، يستريحون وينتظرون انعقاد الندوات حيث تناقش بعض الكتب وجلسات التوقيع، وحيث تعقد الندوات لأكثر من مرة في اليوم الواحد.

تقابلنا مع الشاعر والأديب شعبان يوسف مدير ورشة الزيتون الأدبية، حيث قال معلقًا على دور سور الأزبكية في التاريخ الثقافي للمصريين “لا يوجد أديب أو مثقف في مصر إلا وكان سور الأزبكية سببا رئيسيا في تكوينه الثقافي، وما حصلت عليه من سور الأزبكية من صحف ومجلات ومجلدات أعتبرها كنوزًا أدبية، منه اقتنيت مجلدات مجلة “صباح الخير” من أول عدد صدر في 12 يناير/كانون الثاني 1956 برئاسة تحرير أحمد بهاء الدين، والمجلد الذي يحوي العدد الأول من جريدة المساء في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1956، ولدي أعداد مجلة الكواكب منذ صدور عددها الأول في 1949″.

ويضيف يوسف “ولكوني مؤرخا ثقافيا اقتنيت من السور كثيرا من الكنوز الأدبية، أذكر منها رواية “أديب” إهداء من الدكتور طه حسين للزعيم مصطفى النحاس، حيث كان عميد الأدب العربي على خلاف مع حزب الوفد وزعيمه قبل الثورة، وكان هذا الإهداء بعد الصلح بكلمات رقيقة ومعبرة عن واقع الحال”.

ويتابع “أذكر أيضا عثوري على كثير من السيناريوهات بخط كبار الأدباء، ومنها سيناريو أول لفيلم “المومياء” وبتعديلات باللغة الإنجليزية بخط المخرج الكبير شادي عبد السلام”.

قصة سور في التاريخ

وقصة تأسيس الأزبكية بدأت عام 1475، حيث كان من سياسات الدولة المملوكية الحرص على اتصال العمران بين المدن والأحياء والبلدان التي تفصل بينها المناطق المهجورة، تأمينا لحركة المتنقلين، وكانت هذه المنطقة، على حد قول المؤرخ ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”: “أرض ساحة خراب، وبِركة كان الماء يصل إليها من النيل في موسم الفيضان.. وكانت تقع في طريق الناس.. ولم يكن بها من بناء سوى ضريحين “سيدي عنتر” و”سيدي الوزير”.

وكان الأمير أزبك يسكن قرب هذه البقعة، وأراد أن يجعلها مناخًا لجماله (مرعى للجمال) فجرّف ومهد الأرض، ثم فكر في أن يعمّر هذه المنطقة، وشق قناة من الخليج الناصري الواقع على النيل، وأقام جامعًا كبيرًا وأقام حوله حمامات وأفرانا وطواحين ومختلف المنشآت الخدمية، وشجّع الناس على تعمير وسكنى ذلك الحي الذي حمل اسم “الأزبكية”، أحد أرقى أحياء القاهرة لنحو 4 قرون تالية.

وفي عام 1864 أمر الخديوي إسماعيل بردم البركة وأقام على جزء منها دار الأوبرا للاحتفال بملوك أوروبا القادمين لحضور حفل افتتاح قناة السويس، إذ كانت تبلغ مساحتها حوالي 60 فدانًا، وكلف الخديوي إسماعيل المهندس الفرنسي ديشان مسؤول بساتين باريس بإنشاء حديقة على مساحة 20 فدانًا تتلألأ ليلاً بنحو 2500 مصباح غاز.

بعد عام 1952 تحولت الحديقة لمنتزه عام وتمت إقامة سور حجري مكان السور الحديدي الذي تحول لمكتبات ثقافية تحولت بمرور الوقت لمنارة إشعاع فكري وثقافي، وتدريجيًّا تحول المكان لمعرض دائم ومفتوح للكتب القديمة.

اعتراف رسمي

وفي كل مرة عندما يقوم المسؤولون عن القاهرة بتطوير المنطقة، يقومون بطرد باعة الكتب القديمة بحجة أنهم باعة جائلون، وفي عام 1949 توجه 13 بائعًا لمجلس الوزراء والتقوا رئيس الوزراء آنذاك مصطفى النحاس الذي أصدر أمره إلي فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية ليُصدر لهم تراخيص ثابتة لمزاولة المهنة ومنع تعرض بلدية القاهرة لهم ليكون بذلك رسميا أول سور للكتب في الأزبكية وأحد أهم المعالم الأثرية والفنية بالعاصمة.

ولم تمر 10 سنوات أخرى وفي عام 1959، صدر قرار من بلدية العاصمة بالتخلص من السور لإعادة تجميل حديقة بمنطقة الأزبكية إلا أن الرئيس عبد الناصر أمر بتخصيص أكشاك خشبية للبائعين لتنظيم كتبهم وإصدار تصاريح رسمية لهم بمزاولة المهنة.

وفي عام 1983 تم هدم السور ونقل المكتبات لسور السيدة زينب (ع) بسبب أعمال وضع أساسات كوبري الأزهر، وهو الأمر الذي استمر لمدة 5 سنوات، ثم عادوا بحكم المحكمة، وتكرر الأمر عام 1993 ولمدة 4 سنوات عندما بدأ في أعمال إنشاء محطة مترو الأنفاق بميدان الأوبرا، ومن ثم تم نقل التجار بمنطقة الحسين بجوار مستشفى الحسين الجامعي وعلى مقربة من المقابر، ثم عادوا من جديد عام 1998.

في موكب التاريخ تمر السنون وترحل ولا تنتهي الأزمات، وتتجدد الأحداث، ومع كل تأزم يبدع المجتمع حلولا ويجد مخارج للأمل، ليبقى الكتاب ما بقيت الحياة، أملا في مستقبل تشرق فيه شمس الثقافة من جديد.

الجزيرة