عبير شمص
جاءت توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ بدء ولايته الثانية في العشرين من يناير 2025، في الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وإغلاق عدد من المنظمات الأمريكية التنموية العاملة على الصعيد العالمي وعلى رأسها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والتي كان لها دور ٌكبير ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في هيمنة الثقافة الأميركية على الكثير من مناطق وسكان العالم بل وكان لها الدور الأساسي في العديد من الثورات الداخلية في العديد من البلدان، ليثير تساؤلات حول تبعات ذلك على قوة أميركا الناعمة، ودورها ونفوذها العالميين، وهل يُعد هذا مراجعة خطط أم انتقال إلى ما بعد مرحلة القوة الناعمة؟ وفي هذا السياق حاورت صحيفة الوفاق الخبيرة في علم الإجتماع السياسي الدكتورة ليلى صالح وفيما يلي نص الحوار:

ترى الدكتورة صالح أن ترامب انتهج نهجاً سياسياً اقتصادياً تحت مسمى قومي (America First)، معتبراً العديد من هذه المنظمات لا تخدم المصالح الأمريكية المباشرة، وتعددت الأسباب الموجبة برأيه لهذا القرار في بداية عهده، تتصدرها الأسباب المالية والاقتصادية البحتة، إذ يعتبر أن أكثر هذه المنظمات تنفق الأموال بما يفوق النتائج المربحة للاقتصاد الأمريكي، فضلاً عن أنه يرى في المنظمات متعددة الأطراف تجاوز للسيادة الأمريكية الآحادية القطبية، مما دفعه لتوجيه الموارد المالية داخليًا بدلاً من الاستثمار في نشر الثقافة والقيم الأمريكية عالميًا. من بين هذه المنظمات والبرامج التي تضررت هي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) التي شهدت تخفيضات كبيرة في تمويلها، وتراجعت ميزانيات الوقف القومي للديمقراطية (NED) والمعهد الديمقراطي الوطني (NDI)، كما تضرر برنامج “فولبرايت” التعليمي في بعض الدول، وهذه المنظمات بأدواتها الميدانية من منظمات حكومية وغير حكومية من جمعيات (NGOS) وغيرها، التي تنفذ مشاريع الإدارة الأمريكية الخارجية تُمثل عصب الحرب الناعمة الأمريكية في منطقتنا العربية والإسلامية، وحين لا يغفلنا إعلان عودة الاستراتيجية الأمريكية بعد فشلها في حرب “طوفان الأقصى” إلى الحرب الناعمة بأدوات الداخل، يمثل قرار ترامب تضعضعا للحد من نشاط هذه المنظمات.
تراجع النفوذ الأمريكي
فيما يتعلق بتراجع وإضعاف نفوذ الولايات المتحدة، تعتبر الدكتورة صالح أنّ أبرز تداعيات هذا القرار، حين ستفقد أمريكا نفوذها في مجالات مثل التعليم، الإعلام، التنمية، والدبلوماسية الثقافية، لاسيّما المناطق التي كانت تعتمد على المساعدات والدعم الثقافي الأمريكي سيتقلص التأثير والنفوذ الأمريكي فيها بفعل فقدان أدوات التأثير على الرأي العام في العديد من الدول، خاصةً في الدول النامية. بالتالي تراجع القوة الناعمة الأمريكية، بفعل إضعاف الثقة في التزامات واشنطن تجاه حلفائها وشركائها الدوليين، وفتح المجال أمام القوى المنافسة (الصين، روسيا، إيران وحتى أوروبا) لملء هذا الفراغ.
الإنسحاب من منظمات إغاثية عالمية
تؤكد الدكتورة صالح إن انسحاب أمريكا من منظمات دولية إغاثية وهجومها عليها يدل على تحوّل في السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب الذي رفض التزام بلاده بقواعد النظام الذي أسسته وسارت عليه إدارات البيت الأبيض منذ عصر الرئيس هاري ترومان، واختار الإنسحاب من هذه المنظمات بعد فوزه بانتخابات 2016، ثم عاد فور تنصيبه رئيساً للمرة الثانية لينسحب ببلاده من هذه المنظمات في أول أيامه بالبيت الأبيض. إلا أن ما أظهرته مذكرة “روبيو” في منح إعفاءات فيما يتعلق بتقديم تمويل عسكري خارجي للعدو الصهيوني ومصر، إلى جانب النفقات الإدارية، بما فيها الرواتب، الضرورية لإدارة التمويل العسكري الخارجي، ومنح إعفاء آخر للمساعدات الغذائية الطارئة، ما يجعلها وسيلة ضغط سياسي على بعض المنظمات لإجبارها على اتباع سياسات أقرب للمصالح الأمريكية”.
وتعتبر الدكتورة صالح أن تناقض رؤية الإدارتين الأميركيتين الأخيرتين تجاه عضوية واشنطن بالمنظمات والاتفاقيات الدولية ينتج عنه فقدانها جزءاً كبيراً من نفوذها الدولي، كما أنه يهز ثقة المجتمع الدولي بها، يبقى أنه يوفر فرصة لتمدد النفوذ الصيني فيها، إضافةً لما يتركه ذلك من أضرار اقتصادية ومالية واسعة يعكس تراجع الدور الأمريكي في قيادة النظام العالمي”.
السياسة الأمريكية الجديدة.. أمريكا أولاً
تلحظ الدكتورة صالح في خطاب ترامب وقرارته، لاسيّما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، توجه نحو إعادة تعريف أمريكا كدولة قومية تهتم بمصالحها أولًا، إذ تُقلل من الإلتزامات الدولية التي لا تحقق لها مكاسب اقتصادية أو استراتيجية مباشرة، وتلجأ الى تعزيز النفوذ عبر العلاقات الثنائية والصفقات بدلاً من المنظمات الدولية، ولا شك بأن ترامب استخدم هذه الإجراءات كأداة ضغط على المنظمات والدول التي تعتمد على التمويل الأمريكي لإجبارها على تبني سياسات تتماشى مع رؤيته، والضحايا الرئيسيون لهذا القرار هم المنظمات الإغاثية، والمجتمعات التي تعتمد على الدعم الأمريكي في مجالات الصحة، التعليم، والغذاء، فضلاً عن الدول التي تقع تحت ضغط العقوبات الأمريكية، ويمكن أن تأتي البدائل من بعض الدول الأوروبية التي زادت من مساهماتها، كما قد تساهم الصين في مضاعفة استثماراتها في المساعدات والتنمية الدولية مما يعزز نفوذها، كما أن تراجع أنشطة المنظمات التابعة للمشروع الأمريكي تُفعّل من حضور الجمعيات المحلية الوطنية، والدول المناهضة لمشروع الهيمنة الأمريكية في المنطقة برمتها، هذه السياسة ستُعزز حضور محور المقاومة بالدول الداعمة لها في قضاياها الإنسانية والتنموية بالرغم من العقوبات الأمريكية التي تقيد هذه الدول وتسلبها السيادة والحرية في إدارة خططها التنموية والإستنهاضية فضلاً عن الثقافية”.
مِنّةٌ أم التزام قانوني
ترى الدكتورة صالح أن هذه السياسات تعكس تحولًا في الأولويات الأمريكية وليس بالضرورة انتفاء المصلحة تمامًا، إذ قد نجد قناعة في بعض الأوساط الأمريكية بأن هذه المساعدات لم تحقق الأهداف المرجوة وأن الإستراتيجية تحتاج إلى تغيير. بالرغم من أن المساعدات الأمريكية للدول النامية في سياق السياسة الأمريكية اليوم تُفسر على أنها مِنّة أكثر منها إلتزام قانوني، وقد أُستخدم تاريخيًا كأداة للنفوذ، وإن كان بعض المساعدات أتى ضمن إلتزامات دولية، لكن معظمها يخضع لإعتبارات سياسية بحتة”.
تعزيز القيم المحلية
من منظور بعض الدول، تقليل التأثير الثقافي الغربي قد يكون مفيدًا لتعزيز القيم المحلية، لكن غياب الدعم قد يؤثر سلبًا على قطاعات التعليم، الصحة، والتنمية، وفق الدكتورة صالح فالصين تقدم بديلاً عبر مبادرة الحزام والطريق، لكنها تُركز على الإقتصاد والبُنية التحتية أكثر من نشر الثقافة والقيم، بالتالي، غياب أمريكا عن بعض الملفات يفتح المجال أمام دخول دول تحمل رسالة إنسانية قيمية للعالم تقدم الدعم التنموي العادل بعيداً عن النفوذ السياسي الإستكباري”.