د. بتول عرندس
هذا اليوم ليس يومًا عاديًا في رزنامة الكون، إنه اليوم الذي يُشيَّع فيه الضياء، ويتقدَّم الحزن موكبًا من النور، تنحني فيه الأرواح قبل الأجساد، وتغسل الدموعُ وجوهَ المدن التي كانت تعرف صوته أكثر مما تعرف أسماءها.
٢٣ شباط/ فبراير … يومٌ يعلِّم التاريخ كيف يكون الفقدُ خسارةً للأرض وربحًا للسماء، كيف يليق بالبشر أن يُشيِّعوا وليًّا عاش بينهم كأبٍ، وقادهم كأخ، ورحل عنهم كشهيدٍ لم يغادرهم أبدًا. في هذا اليوم، ستنحني البيوت كما تنحني السنابل المثقلة بالعشق، ستتكئ الجدران على صدى كلماته، وسيفتح الوطن صدره مشرَّعًا للعزاء الذي تأجَّل طويلًا، كأنه كان يخشى أن يكتب التاريخ سطرًا ينزف أكثر مما يحتمل الورق.
حين يخرج الناس ليشيّعوه، ستشعر الطرقات أنها تسير في جنازتها، وسيبكي الحجر الذي سمع صوته، والجدار الذي رآه يمر، وستقف السماء دقيقة صمتٍ حزينةً على رجلٍ لم يترك فيها متّسعًا للغياب.
أيها الراحلون إلى الله كالغيم… كيف نقرأ بعد اليوم وصايا الأرض دون أن نتذكّر وصيتك؟ كيف يعلو صوتٌ في الساحات دون أن يحمل شيئًا منك؟ كيف سيمرّ الشتاء على الجنوب دون أن يحتمي بفصولك الأربعة؟
يا سيّد الوصايا الأخيرة، يا آخر من أبكى الشمس وأبكى القمر…
نمْ حيث يليق بك الخلود، واترك لنا وصيّتك محفورةً في ظلّ كل نخلة، وعلى جناح كل طائر، وفي دموع كل أمٍّ لم تخشَ يومًا على ولدها، لأنها تعلم أنه كان في رعاية حبّك الأبدي.