في خضم التحولات العالمية المتسارعة، يشهد النظام الدولي تغيرات جذرية في موازين القوى التقليدية. فقد برزت على الساحة الدولية قوى صاعدة تسعى بخطى حثيثة لتوسيع نفوذها في مختلف مناطق العالم، مما أدى إلى تحولات عميقة في المعادلات الجيوسياسية. وتُعد منطقة آسيا الوسطى، بما تمتلكه من موارد طبيعية هائلة وموقع جغرافي استراتيجي فريد، ساحة جديدة للتنافس بين القوى العظمى. فبعد أن كانت هذه المنطقة تعتبر حصرية تحت النفوذ الروسي، أصبحت اليوم تستقطب لاعبين جدداً يسعون، من خلال الاستثمارات الضخمة والعلاقات التجارية الموسعة، إلى إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي والسياسي في المنطقة. وفي هذا السياق، يراقب صناع القرار الأمريكيون هذه التطورات بقلق متزايد، ويسعون جاهدين للحفاظ على توازن القوى في هذه المنطقة الحساسة.
وضع كبار مسؤولي إدارة ترامب مواجهة النفوذ العالمي المتزايد للصين كأولوية رئيسية في السياسة الخارجية. في آسيا الوسطى، سيواجه المسؤولون الأمريكيون معركة صعبة في محاولتهم للحد من البصمة الاقتصادية المتنامية لبكين.
الإرتباط الإقتصادي مع الصين
وفقاً للبيانات الصادرة عن الإدارة العامة للجمارك الصينية، عززت بكين موقعها كلاعب اقتصادي مهيمن في المنطقة الواقعة على الحدود الغربية للصين، مسجلة نمواً يقارب 5% في حجم التداول في عام 2024. وقد تجاوزت الصين روسيا كأكبر شريك تجاري في المنطقة.
تظهر الأرقام أن الميزان التجاري لعام 2024 يميل بشدة لصالح الصين. بلغ إجمالي حجم التداول مع آسيا الوسطى 94.8 مليار دولار، مرتفعاً من 89.4 مليار دولار في العام السابق. بلغت قيمة السلع والخدمات الصينية المصدرة إلى آسيا الوسطى 64.2 مليار دولار، مشكلة أكثر من ثلثي التجارة.
معظم الـ 30.6 مليار دولار التي استوردتها الصين من آسيا الوسطى في العام الماضي كانت موارد طبيعية، بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي والأتربة النادرة والمعادن الثمينة والمواد المعدنية. وكانت الفواكه والمواد الغذائية الأخرى من بين السلع المستوردة الرئيسية.
العلاقات التجارية مع للصين مع مختلف الدول في آسيا الوسطى في تطور مستمر:
كازاخستان
ظلت كازاخستان أكبر شريك تجاري للصين في المنطقة، حيث بلغ حجم التبادل التجاري الثنائي 43.8 مليار دولار، بزيادة تقارب 7% مقارنة بالعام السابق بأكمله. استوردت كازاخستان سلعاً وخدمات بقيمة 28 مليار دولار وصدرت ما مجموعه 15.9 مليار دولار.
قيرغيزستان
حققت قيرغيزستان أعلى نسبة ربح مقارنة بالعام الماضي مع الصين، حيث ارتفع حجم التداول الثنائي بنحو 15% ليصل إلى 22.7 مليار دولار. الأهم من ذلك أن قيرغيزستان زادت صادراتها إلى الصين بنمو مذهل بلغ 3270%، من 80 مليون دولار متواضعة نسبياً في عام 2023 إلى 2.8 مليار دولار في العام الماضي. ومع ذلك، واجهت قيرغيزستان عجزاً تجارياً كبيراً مع الصين في عام 2024 حيث بلغت الواردات 19.9 مليار دولار.
تركمانستان
ظلت التجارة مع تركمانستان، ثالث أكبر شريك تجاري للصين في المنطقة، ثابتة عند 10.6 مليار دولار، لكن تركمانستان ظلت البلد الوحيد في آسيا الوسطى الذي سجل فائضاً تجارياً مع بكين. بلغت صادرات عشق آباد 9.6 مليار دولار، بينما اقتصرت الواردات على أكثر من مليار دولار بقليل. يعود الميزان التجاري المواتي لهذا البلد مع الصين على الأقل إلى عام 2014، وفقاً لبيانات الإدارة العامة للجمارك الصينية.
أوزبكستان وطاجيكستان
شهدت أوزبكستان انخفاضاً بنحو 2% في التجارة مع الصين إلى أقل من 13.8 مليار دولار، مع صادرات إلى الصين بلغت 2 مليار دولار وواردات بلغت 11.8 مليار دولار. كما شهدت طاجيكستان انخفاضاً بنحو 2% في حجم التداول الثنائي إلى حوالي 3.9 مليار دولار. وفي حين نمت صادرات دوشنبه إلى الصين بنحو 40% مقارنة بالعام السابق لتصل إلى 350 مليون دولار، بلغت واردات طاجيكستان أكثر من 3.5 مليار دولار بقليل.
تعكس التطورات التجارية في عام 2024 في آسيا الوسطى تحولاً جوهرياً في الأنماط الاقتصادية للمنطقة. فالزيادة الملحوظة في حجم التبادل التجاري والتغير في الميزان التجاري لدول المنطقة ستكون لها تداعيات عميقة على مستقبل المنطقة الجيوسياسي. هذا الاتجاه لن يؤثر فقط على العلاقات الاقتصادية، بل سيمتد تأثيره إلى العلاقات السياسية والأمنية في المنطقة.
فدول آسيا الوسطى تعمل الآن على تنويع علاقاتها الخارجية، مما يؤدي إلى خلق توازن جديد في العلاقات الدولية. هذه التغيرات قد تؤدي إلى تشكيل نظام إقليمي جديد تجد فيه القوى المختلفة نفسها مضطرة للتعاون والتنافس في آن واحد.
إن مستقبل هذه المنطقة الاستراتيجية يعتمد على قدرة دولها على إدارة هذه العلاقات المعقدة والاستفادة من الفرص المتاحة. ويمكن اعتبار التطورات الاقتصادية لعام 2024 نقطة تحول محورية في هذا المسار، حيث سترسم ملامح العلاقات الإقليمية المستقبلية. وفي ظل هذه التحولات، تبرز أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه دول المنطقة في تشكيل مستقبلها الاقتصادي والسياسي، مع الحفاظ على استقلالية قرارها وتحقيق المصالح المشتركة لشعوبها.