فعلى مدار عدة أيام، نقلت عشرات الطائرات التابعة لشركة الخطوط الجوية العراقية، ولشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية، آلاف العراقيين من مطارات بغداد والنجف والبصرة لتقلهم إلى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت.
واشتملت المشاركة العراقية اللافتة في مراسم تشييع السيدين القائدين نصر الله وصفي الدين، على حضور ساسة كبار، ورؤساء حكومات، ووزراء حاليين وسابقين، وبرلمانيين حاليين وسابقين، وقيادات كبيرة من الحشد الشعبي، ونخب إعلامية وأكاديمية واجتماعية مختلفة، إلى جانب المواكب والهيئات الحسينية، والشعراء الشعبيين والرواديد الحسينيين، فضلًا عن أعداد هائلة من مختلف فئات وشرائح المجتمع العراقي المتنوع، قوميًا ودينيًا ومذهبيًا ومناطقيًا.
والى جانب ذلك الحضور العراقي المتميّز في لبنان، كانت مختلف المحافظات العراقية حاضرة ومشاركة بفعالية وحماس، من خلال إقامة مراسيم التشييع الرمزي، ومجالس التأبين، ومهرجانات التكريم والإحياء التي شهدت حضور ومشاركة ربما غير مسبوقة في مناسبات وظروف كثيرة مرت وتمر بها البلاد باستمرار.
ولا شك أن الصورة المبهجة للحضور العراقي في تشييع وتأبين وتوديع سيد شهداء المقاومة ورفيقه، عكست مع الصورة الكلية الشاملة للحدث، مكانة الشهيد القائد، والأدوار والمواقف التأريخية التي اضطلع بها طيلة مسيرته الجهادية الممتدة لنحو خمسة عقود من الزمن، والتي كانت حافلة بكلّ معاني الشجاعة، والإيثار، والتضحية، ونكران الذات، والثبات على المبادئ الإنسانية الحقّة، لتختتم بالشهادة على أيدي أكبر عصابة إجرامية دموية عرفها التاريخ.
وكان من الطبيعي جدًا، إزاء هذه السيرة العطرة والخاتمة المشرّفة، أن يهب العراقيون مع إخوانهم اللبنانيين والإيرانيين، والآخرين من جنسيات عربية وإسلامية وأجنبية متعددة، للحضور مع الشهيد بعد رحيله، كما كان هو حاضرًا مع الجميع في أحلك الظروف وأصعب الأحوال.
وكذلك، فإن هذه الصورة المبهجة، عبرت في جانب منها، عن حرص العراقيين على رد الجميل، ومقابلة الموقف الإيجابي المشرف بمثله، إذ إن سيد شهداء المقاومة، كرّس كلّ إمكانيات حزب الله وخبراته المتراكمة لمساعدة ومساندة العراق حينما تعرض للعدوان الداعشي التكفيري في صيف عام 2014، ووقعت ثلث مساحته بقبضة عصابات داعش، والباقي منها كان مهدّدًا، بمقدساته ومراقده وحرماته ومرجعياته ومؤسساته، لكن بفضل فتوى المرجعية الدينية، وهمّة وحماس الشعب العراقي، ودعم الأصدقاء، ومنهم حزب الله وقائده الشهيد السيد حسن نصر الله، فشلت كلّ المؤامرات والمخطّطات التدميرية التخريبية، وانهزم داعش.
والنقطة الأخرى، هي أن التفاعل والحضور العراقي الكبير في تأبين سيد شهداء المقاومة، أكد وأثبت حقيقة مهمّة للغاية، ألا وهي، قوة وتماسك محور المقاومة، وفاعلية العراق فيه، ليدحض ذلك الحضور كلّ الادّعاءات والتخرصات التي ساقتها وروجت لها العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، عن تفكك وتراجع وضعف محور المقاومة بعد استشهاد السيد نصر الله وعدد لا يستهان به من كبار القادة في حزب الله وحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس).
وإذا كانت القراءات والتقييمات لمجمل صورة التشييع التاريخي، ذهبت إلى أن ذلك الحدث الكبير، مثّل رسالة بليغة وإشارة واضحة عن قوة حزب الله وثقل محور المقاومة، فإن هذه الرسالة تضمنت حقيقة مفادها، أن العراق كان – وسيبقى – أحد الأرقام الصعبة في ذلك المحور، والشعب العراقي مثلما نجح في درء الكثير من الأخطار وإفشال الكثير من المؤامرات، وإحباط الكثير من الأجندات طيلة العقدين المنصرمين، فهو قادر على تسجيل حضور فاعل ومؤثر في كلّ الميادين، ودعمه وإسناده للبنان والمقاومة وحزب الله الذي كان مؤثرًا خلال معركة “طوفان الأقصى”، سوف يبقى كذلك، بعد استشهاد سيد شهداء المقاومة وبعض رفاقه، وبعد أن وضعت المعركة أوزارها، ربما لفترة من الزمن.
ومن دون شك فإن المواقف العراقية الداعمة والمساندة لحزب الله والمقاومة الفلسطينية والجمهورية الإسلامية الإيرانية في مواجهة الغطرسة الأميركية والإجرام الصهيوني، تجعل العراق دائمًا في دائرة الاستهداف بأشكال وأساليب ووسائل مختلفة. ولعل الإشارات الأولية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد دخوله البيت الأبيض مرة أخرى في العشرين من شهر كانون الثاني – يناير الماضي، تؤكد ذلك، حيث إن واشنطن وتل أبيب وعواصم غربية أخرى، تعمل جاهدة لإخراج العراق من محور المقاومة ومعادلات الصراع مع الكيان الصهيوني.
واليوم، فإن الدوائر الأميركية والصهيونية، حينما ترى حجم الحضور العراقي، النخبوي والشعبي، في مراسيم تأبين سيد شهداء المقاومة، لا بد أن ترفع وتيرة مساعيها وجهودها التآمرية لتحاصر العراق، ولتكرس وجودها المعلن والمخفي فيه، ولتعيده إلى دوامة العنف والفوضى والإرهاب من جديد.
عادل الجبوري