الاختصاصية بعلم النفس ايمان بهجت للوفاق:

التنمر الإلكتروني سلوك مرضي يُنذر بخطورة مجتمعية

التنمّر الالكتروني، هو سلوك سلبي عدواني تجاه الآخرين سواء كان تنمراً لفظياً أو جسدياً.. وله آثار سلبية تقع على عاتق ضحية التنمّر وعلى البناء الأمني والنفسي والاجتماعي للمجتمع ككل

2023-02-06

الوفاق/ خاص
سهامه مجلسي

نحن نعيش في وسط تغيَّرت فيه المفاهيم، وانقلبت فيه المعايير الأخلاقية، وأصبحت القوة تكمن في تجريح الآخر والنيل من وجوده وكرامته بدلاً من الاعتراف به ودعمه، وتحول الاختلاف الذي يميز البشر إلى التنمر الالكتروني، وكَثُر النقد غير المدروس والتشويه المقصود والمتعمَّد، واندثرت قيم المشاركة واحترام حرية الآخرين.
ونحن نواجه الآن “التنمر الالكتروني” بكل أشكاله؛ فبدلاً من التعامل مع الآخرين برأفة ورحمة ومحبة وطيبة، تحوَّل البشر إلى شخصيات شرسة تتنافس فيما بينها على إيذاء بعضها بعضاً، وتحوَّل الواقع إلى غابة تنعدم فيها ثقافة الحوار والإقناع وقيم التواصل الحقيقية والنية الحسنة، وانقسم المجتمع إلى فئتين: فئة مُتنمِّرة وفئة مُتنمَّرٌ عليها، ولم يسلم أحد من هذه الظاهرة أطفالاً كانوا أم كباراً.
يعدُّ المُتنمِّر شخصاً مريضاً نفسياً، ويعمل على تفريغ اضطراباته النفسية في سلوكاته اللاأخلاقية؛ ممَّا يترك المتنمَّر عليه حائراً بين ما تربى عليه من قيم وأخلاق، وبين نزعته الفطرية إلى استرداد حقه واعتباره المستباحان، وفي هذا الصدد اجرت صحيفة الوفاق حواراً مع الدكتورة ايمان بهجت وفيما يلي نص الحوار:
ما هو تعريفك للتنمّر الالكتروني؟
أسفرت ثورة تكنولوجيا المعلومات عما يسمى بالشبكة العنكبوتية (الانترنت) التي أتاحت ربط أنحاء العالم بعضه ببعض، وأتاحت مجالاً للتفاعل والتواصل بين الناس باعتمادها على عدة خدمات كغرف الدردشة والبريد الالكتروني والواتساب والفايسبوك والانستغرام.. إضافة إلى إمكانية تخزين المعلومات الشخصية والحصول عليها في أي زمان ومكان. إلا أن استخدام الأفراد لهذه التقنية تنوّع بين الاستخدام السليم المتوازن وبين الاستخدام المفرط المرضي، ما أثر على مختلف مجالات حياة الفرد الاجتماعية والمهنية والصحية والعاطفية.
ما هي دوافع الأفراد للجوء إلى العالم الافتراضي؟
إن دافعية الأفراد للّجوء إلى العالم الافتراضي عبر هذه التقنيّة تختلف وتتنوع تبعاً لحاجاتهم المختلفة للولوج إلى هذا العالم، فمنهم من يرى اعتماد وسائل التواصل الاجتماعي أدوات للاستفادة منها، ومنهم من يرى أنها تعويض عما يعانيه في العالم الحقيقي الواقعي من مشكلات اجتماعية ونفسية كالقلق أو الاكتئاب أو الوحدة أو الافتقار إلى المهارات الاجتماعية، فيرسم لذاته صورة محددة يتفاعل من خلالها مع الآخرين ويكوّن صداقات ليحصل على الدعم المفقود من قبل المحيطين به.. ليصل إلى مستوى من تقدير للذات عبر هذه الوسائل الالكترونية.
إلا أن هذا السعي لبناء حياة افتراضية سعيدة قد تشوبها بعض المشاكل كالتنمّر الالكتروني، وهو سلوك سلبي عدواني تجاه الآخرين سواء كان تنمراً لفظياً أو جسدياً.. وله آثار سلبية تقع على عاتق ضحية التنمّر وعلى البناء الأمني والنفسي والاجتماعي للمجتمع ككل.
يحصل التنمّر في المدارس كما في الجامعات وفي العمل وفي الحياة الاجتماعية.. ويعتبر ظاهرة بات العالم يشتكي منها ويعاني من آثارها، لدرجة تم التعامل معه باسم توصيفي جديد سماه «ظاهرة التنمّر» كدلالة على تحوّل السلوك الإنساني لسلوك مشابه للسلوك الحيواني في التعامل في الغابة، حيث لا بقاء لضعيف ولا احتكام إلا للغة القوة الوحشية، وقد تطوّر التنمّر مع تطوّر التكنولوجيا ليصبح التنمّر الكترونياً أي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيُمارس على الضحية لإذلالها وإضعافها وإهانتها أو لنيل مكتسبات غير شرعية منها.

كيف يحصل التنمّر الالكتروني؟
الاعتراف بوجود هذا السلوك العدائي يكون عبر:
أولاً – توصيفه بالسلوك المرضي الذي يُنذر بخطورة مجتمعية.
ثانياً عبر مواجهته بالسبل التربوية والقيمية والدينية.. للتمكّن من السيطرة عليه والحدّ من انتشاره.
ويُعدّ المتنمّر شخصاً مريضاً نفسياً يعمل على تفريغ اضطراباته النفسية في سلوكياته اللاأخلاقية، وذلك عبر استخدام الألفاظ الجارحة التي تؤثر في ثقة الإنسان بذاته، ويعمد إلى الإذلال العلني أمام الآخرين، حيث يركز المتنمّر على نقاط ضعف ضحيّته ويعمل على إظهارها أمام الآخرين دون رحمة، كما يعمد إلى نشر الشائعات وإفشاء الأسرار وتلفيق التهم بقصد تشويه السمعة.
ماهي أسباب انتشار التنمّر؟
أسباب نفسية كالتغطية على عقدة نقص ذاتي لدى المتنمّر لها علاقة بالشكل او بالمستوى العلمي او المادي او بالقدرات الذهنية او بسبب مشاكل اسرية.
أسباب اجتماعية كعدم القدرة على التفاعل الاجتماعي او التواصل السليم المباشر مع الاخرين او لديه خلافات مع الاخرين.
هناك أسباب تربوية كسوء التربية والتجريح المستمر والاهانة والقاء اللوم المستمر.
وهناك العديد من العوامل التي تساهم في تفعيل التنمّر، حيث تساهم الألعاب الالكترونية لدى الأولاد في زيادة سلوك العدوانية والأذى، إذ يقضي الكثير من الأبناء ساعات طوال في ممارسة ألعاب الكترونية عنيفة وفاسدة على أجهزة الحاسوب والهاتف الخلوي، وتقوم فكرتها الأساسية على مفاهيم القوى الخارقة وسحق الخصوم مما ينمّي لديهم النزعة العدائية، بالإضافة إلى انتشار أفلام العنف وما يتخلله من مشاهد قتل وتدمير ودماء، يرافق ذلك خلل تربوي لدى بعض الأسر حيث تغيب المتابعة التربوية وتقويم السلوك وتعديله. إلى جانب عدم الوعي بثقافة الاختلاف وعدم احترامه لدى البالغين مما يجعل من هذا الاختلاف مدعاة للاستهزاء والتجريح والإهانة، وهو أمر يتنافى مع تعاليم الدين الإسلامي، يقول الله تعالى في كتابه الكريم «يا أيها الذين آمنوا لا يسخَر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمِزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسُوق بعد الإيمان ومن لم يتُب فأولئك هم الظالمون».

هل یمكن تحديد انواع التنمر؟
نعم فهناك تنمّر فردي يكون عبر استغلال التقنيات التكنولوجية المختلفة لتشويه صورة الآخر وتقليل تقديره لذاته من خلال التجريح والتشهير وفبركة الأكاذيب والإنتقاد اللاذع وتوجيه الإساءات اللفظية والتقليد الساخر.. ويمكن القول ان الخدمات المتوافرة في وسائل التواصل الاجتماعي تساعد المتنمِر على استغلال التقنيات في تشويه الحقائق من خلال قدرته على قص ولصق صور مشوّهة.. تركيب فيديوهات غير حقيقية.. برمجة محادثات مفبركة.. تؤدي كلها عند طرحها أمام المجتمع الى تغيير مسار حياة الضحية وتحطيمه نفسياً حتى تصل في بعض الحالات الى الانتحار.. لذا لا بد أولاً من التأكيد على أهمية الدور التربوي الملقى على عاتق الاهل والمدرسة لتفادي تعرض الابناء للتنمر.. اذ ان النسبة الاعلى لضحايا التنمّر هم من طلاب المدارس تشير الإحصائيات أن الفئة العمرية الأكثر عرضة للتنمر الإلكتروني هي فئة الأطفال والمراهقين. كما توضح الدراسات بأن التنمر الإلكتروني له تأثير واضح وخطير على هذه الفئة، حيث يتعرض ما يقارب من 43% من الأطفال الذين يستخدمون الإنترنت للتخويف.. وبالتالي فإن تحصين الأهل لأبنائهم من خلال تقديم العاطفة والتوعية الاخلاقية والدينية بالاضافة الى منحهم الثقة يمدهم بالقوة والقدرة على تفادي التنمر او مواجهته وتخطيه ان حصل وذلك باقل ضرر نفسي ممكن. كما تساهم المدرسة من خلال اجراءات المراقبة والمتابعة لأحوال الطلاب بالاضافة الى اعتماد الارشاد والتوجيه لتوعيتهم حول سلبيات التنمر ونتائجه في التخفيف والحد من حالات التنمر المدرسي.
ان الاستخدام الذكي لوسائل التواصل الاجتماعي والحفاظ على الخصوصية الشخصية للبيانات المتوافرة في الهواتف والحواسيب وتوخي الحذر الشديد عند التواصل مع الاخرين عبر مختلف التطبيقات يغلق ابواب الفرص للتنمر امام الاستغلاليين والمحرضين..
هذا الأمر لا يجدر الحذر منه من قبل الطلاب فقط.. بل من كافة فئات المجتمع .. فهدف المتنمّر هو تحطيم الآخر خاصة من يمتلك ميزات بارزة كالنجاح أو الشهرة او الموهبة.. لذا نجد أن اكثر ضحايا التنمّر هم من العالم الفني او السياسي لان حياتهم اكثر عرضة للمراقبة والمساءلة والتقييم..
بالاضافة الى أن وسائل التواصل التي تمنح مستخدميها القدرة على إعداد فيديو مضافاً بالموسيقى والاغاني والمؤثرات المرئية والمسموعة المختلفة ساهمت في بناء شهرة سريعة لمن يعدّ لنفسه هكذا فيديو ويدرجه على صفحاته الخاصة على الفايسبوك والانستغرام والتيك توك.. هذه الشهرة السريعة تجعل منه مادة دسمة للمراقبين والمترقبين بانتظار ان يصدر عنه او عنها هفوة او راي او موقف او صورة مخالفة لمعايير الجماعة لينصبّ عليه او عليها وابل من الانتقادات اللاذعة والاهانات والتجريح.. وقد يرافق ذلك بحث عن الحياة الماضية للضحية وكشف المستور والمعلن فيها.
أما الشكل الآخر للتنمر فهو التنمر الجماعي الذي يستهدف فئة او جماعة او حزب او اهل منطقة.. فيكون التنمر على شكل نكات تصبغ مجتمع معين بصفة او نعت سلبي.. او الاستهزاء بممارسات او معتقدات دينية.. او الاستخفاف بانجازات فئة معينة.. الخطير في هذا التنمّر انه مُمنهج وقد يؤدي الى شعور بالاحباط العام.. ويزرع في اذهان العامة معا.