المنطاد الصيني والجلَبة الأميركية: شيطنة الصين مستمرة!

وأخيراً، أسقطت طائرة مقاتلة أميركية المنطاد الصيني التائه فوق المحيط الأطلسي قبالة الأراضي الأميركية، بعد أيام متواصلة من التحريض على الصين التي يفسر المسؤولون الأميركيون كلَّ شيء آتٍ من جهتها على أنه عدائي ويهدف الى التجسس.

2023-02-06

علي عبادي

كان يمكن لقصة المنطاد، الذي تقول الصين إنه أداة لرصد الطقس خرجت عن السيطرة بسبب الرياح، أن تعالَج وتنتهي بطريقة أخرى لو أنها متعلقة ربما بدولة غير الصين، لكن الساسة الأميركيين لا يفوّتون فرصة لتحويل أي واقعة تتعلق بالصين الى قصة خطر أكيد على الأمن القومي الأميركي، وهي ذريعة باتت تُستخدم بصورة منهجية لمحاصرة الصين سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً لإبقائها على أبعد مسافة ممكنة عن القدرات الأميركية.

فرضية “التجسس” هي الفرضية الوحيدة التي سادت اللغة السياسية والاعلامية الأميركية طوال رحلة المنطاد فوق الأراضي الأميركية التي استمرت نحو خمسة أيام، وتم تغييب أي احتمال آخر بهدف استثمار القضية الى أبعد حد ممكن في الحرب المتعددة الوجوه التي تخوضها واشنطن ضد العملاق الصيني المنافس. ودخل العامل الحزبي الأميركي على الخط من باب تصعيد الموقف الأيديولوجي، حيث شن الجمهوريون (ولا يمكن إعفاء الديمقراطيين من المسؤولية بما أن وزيري الخارجية والحرب الأميركيَيْن تبنّيا بدون تردد فرضية قيام المنطاد بـ “مراقبة مواقع استراتيجية” أميركية) حملة عدائية ضد “عملية التجسس الصينية” وما تشكله من “خطر على الأمن القومي الاميركي”. ولم يكن من باب الصدفة أن هذه الحملة جاءت قبل يوم واحد من توجه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الى بكين في أول زيارة لمسؤول أميركي بهذا المستوى الى الصين منذ 5 سنوات، في ما قد يكون عملية تجميد للزيارة أو وضع ضغط إضافي على الصين قبل القيام بها.

من الناحية الأمنية، كان بإمكان القوات الأميركية إسقاط المنطاد بمجرد دخوله مجالها الجوي، خاصة أن حركته بطيئة. لكن التعبئة المحلية ضد “خطر” الصين على الأمن الاميركي تتطلب بعض “الأكشن”. فقد تركوا المنطاد يطير بحريّة فوق الأراضي الأميركية لوقت إضافي من أجل استثماره في مزيد من الدعاية ضد الصين. ولو كان هناك احتمال معتدّ به لقيامه بالتجسس على قواعد أميركية حيوية لجرى إسقاطه بدون تردد (فرضية التجسس قائمة لكنها مجرد اتهام بدون دليل، والارتفاع العالي جداً للمنطاد يدعم فرضية خروجه عن السيطرة، الى جانب أن هناك وسائل تجسس أكثر تطوراً وتخفياً لدى الصين مثل الأقمار الصناعية والسايبر).

من دون شك، اشتغلت الآلة الدعائية على استثمار قصة المنطاد لتغذية الهلع ضد الصين وتبرير الإجراءات التجارية والعسكرية ضدها، وهي إجراءات لم تتوقف يوماً، وكان آخر ملامحها توسيع الانتشار العسكري الاميركي في دول المحيط الهادئ، وقد بدأ ذلك بالفعل بفتح قواعد إضافية أمام القوات الأميركية في الفلبين، ويجري الآن البحث مع اليابان عن إمكانية نشر صواريخ أميركية على أراضيها. وهذه التحركات العسكرية ستبدو أكثر مشروعية في ضوء الحملة الدعائية الواسعة التي تصور الصين خطراً داهماً وليس قوة منافسة، كما هي العلاقات بين القوى الكبرى.

والشيء بالشيء يذكر، كثفت الولايات المتحدة جهودها لإعاقة تقدم الصين في صناعة الرقائق الإلكترونية التي تُعتبر عنصراً أساسياً في الأجهزة الإلكترونية. وتعطي الادارة الأميركية تفسيرات لخطواتها التجارية ضد الصين على هذا الصعيد بُعداً أمنياً خالصاً، حيث تزعم أن فرض حظر على توريد هذه الرقائق الى الصين ينطلق من أن استخدام الأخيرة للتكنولوجيا يشكل تهديداً لأمنها القومي، بينما تقول الصين إن الولايات المتحدة تسيء استخدام ضوابط التصدير من أجل احتكار “ريادتها في قطاعات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والتصنيع”، وإن الإجراءات الأمريكية تهدد “استقرار سلاسل التوريد الصناعية العالمية”.

وفي وقت سابق، قضت منظمة التجارة العالمية بأن الرسوم الجمركية الأمريكية على الصلب والألمنيوم التي فرضتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب تنتهك قواعد التجارة العالمية، ومع ذلك رفضت الحكومة الأميركية التجاوب مع القرار، تماماً كما ترفض إخضاع جنودها مرتكبي الجرائم للمحكمة الجنائية الدولية أو الاحتكام للقانون الدولي في أي قضية تخالف أهواءها ومصالحها التجارية.

ولا ننسى أن الولايات المتحدة حاربت شركة هواوي التي تستخدم شبكة الجيل الخامس من الاتصالات، وصوّرت الشركة على أنها تعمل لحساب المخابرات الصينية، وتمكنت بذلك من قطع الطريق على توسيع نطاق مشاريعها في أوروبا والخليج ومناطق النفوذ الأميركي الأخرى. وهنا يُطرح سؤال: ألا تستخدم الولايات المتحدة شبكات الاتصال للتجسس كما فعلت وكالة الأمن القومي بحق أنجيلا ميركل وغيرها من الزعماء الأوروبيين؟

كما افتعلت واشنطن مشكلة كبيرة في وجه تطبيق الفيديوهات القصيرة الصيني الشهير “تيك توك” الذي أصبح ينافس بجدية مواقع التواصل الاجتماعي الواقعة تحت الهيمنة الأميركية، وذلك في سياق بناء الجدران الدفاعية ضد القوة الصينية الناعمة عسى ان يخلو الجو للمنتجات الغربية. ونعرف أن الولايات المتحدة تستخدم فيسبوك وتويتر وغيرهما لأجل دعم سياساتها وقيمها وليس فقط لمجرد إتاحة التواصل الاجتماعي.

تفعل الولايات المتحدة كل ما يمكنها لإزاحة الصين من طريق المنافسة، وكل مساعيها تتسم بالبلطجة والعقوبات والتهويل بالخطر الصيني، في حين أن الصين لم تغزُ دولة حتى الآن كما فعلت أميركا مراراً، وتقود بكين مشروعاً عالمياً لتأسيس البنى التحتية (الحزام والطريق) لم تستطع الولايات المتحدة بعظمتها وتاريخ هيمنتها الطويل مجاراته، لكنها تزعم الآن تحت وطأة اللجوء الخليجي المستجد إلى مبادرات الصين أنها ابتكرت مشروعاً بديلاً مشكوكاً فيه (الشراكة العالمية للبنى التحتية).

هي – من الوجهة الأميركية- حرب احتكار المعرفة والقدرة وقيادة العالم، ولا يصح السماح فيها لذوي البشرة الصفراء بالمنافسة، لكنها حرب خارجة عن كل قواعد المنافسة الشريفة، وبالتأكيد بعيدة عن أحكام القانون الدولي الذي نصّب “الكاوبوي” نفسه مرجعاً دولياً بدلاً عنه، ويعتبر أن مهمته منازلة “الشيطان الصيني” بكل الأساليب والحيل حتى إعادة هذا المارد الى القمقم!