تراث:

تونس تعيد إحياء المنسوجات التقليدية في وجه “الفاست فاشن”

عرفت الصناعات التقليدية في تونس، المراوحة بين الازدهار والركود، خاصة بعد 2012، حين تناقص عدد السياح المقبلين على تونس. وعلى المستوى المحلي، فإن هذه المنسوجات كانت حبيسة النوستالجيا وبعض المناسبات الاحتفالية، وعزز ذلك غزو "الفاست فاشن".

2023-02-08

المرقوم والقشابية والبرنس، أو كما يعرف في تونس بـ”البرنوس”، هي منسوجات تقليدية حيكت من الصوف، منها المفروش ومنها الملبس، وتعدّ هذه الصناعات سمة أساسية من السمات الثقافية والحضارية للتونسيين، وتعود جذورها التاريخية إلى الأمازيغية، وقد توارثتها القبائل العربية الوافدة فيما بعد.

ولكلّ منها خصوصيّة فنية وإبداعية ومكان نشأة، فلباس القشابية مثلاً هو لباس شتوي من الصوف الذي كان النساجون يشترونه بكميات كبيرة من عند الفلاحين، خلال موسم جز الأغنام، وتتولى النساء فيما بعد عملية غسله وتنظيفه، ثم غزله وتحويله إلى خيوط طويلة ناعمة، بواسطة آلات تسمى “القرداش” و”المغزل” تنسج على نول صناعة الزربية (سجاد).

وكانت “القشابية” حكراً على العامة، وما زال سكان الأرياف يرتدونها حتى أدخلت عليها تصاميم جديدة ومبتكرة جعلتها تنتعش وتصبح لباساً للشباب أيضاً، وقد تصل مدة إنجاز “القشابية” إلى شهر كامل، ويبلغ سعرها الأدنى 350 ديناراً.

وللباس القشابية قيمة ومكانة خاصة لدى سكان منطقتي الشمال والوسط الغربي، إذ يرتدونه طوال فصل الشتاء؛ لتدفئة أجسامهم من برد منطقتهم الجبلية وتتدنى فيها الحرارة إلى درجات ما تحت الصفر.

وعلى عكس القشابية، فإن البرنوس لباس للرجال في الأساس (لكنه ليس حكراً عليهم) يدل على البذخ، ولا يرتديه سوى أعيان البلاد، ويعدّ مظهراً من مظاهر الرفاه الاجتماعي، وهو عبارة عن معطف طويل ينسج من صوف تقليدي (دقة 20)، ويستغرق إنجازه نحو شهرين، ما يبرر ثمنه الباهظ، إذ يبلغ سعره نحو 600 دينار. وله قبعة تغطي الرأس، وليس فيه أكمام، يمكن الاكتفاء بوضعه فوق الكتفين، وفي الأغلب تراوح ألوانه بين الأبيض أو البنّي أو الأسود، وألوان أخرى.

إلى جانب الملبس، نجد المفروشات التقليدية على غرار “الكليم” و”المرقوم”، وتتفرد تونس بصنعها للمرقوم الذي يجمع بين النسيج التقليدي وفن الرسم بالصوف، ويعتمد ألواناً زاهية وزخرفاً مستمداً من الثقافة الأمازيغية، وله مقاسات مختلفة. وإحياءً لهذا النوع من المفروشات، تم تحويله إلى حقائب يد وحاملات وثائق وغيرها من الإنتاجات الإبداعية.

أما “الكليم” فهو نسيج صوفي يستعمل كبساط أرضي يختلف عن المرقوم في نقوشه، ويتكوّن من أشرطة متوازية إما بلون واحد أو بألوان مختلفة.

وتتطلب حياكة هذه المنتوجات جهداً وإبداعاً، وتستوجب عملية نسجها قضاء ساعات طوال وراء المنسج لجمع خيوط الصوف بـ”السداية”، ودقّها بـ”الخلالة” لتلتحم ببعضها.

عرفت هذه الصناعات المراوحة بين الازدهار والركود، خاصة بعد 2012، حين تناقص عدد السياح المقبلين على تونس. وعلى المستوى المحلي، فإن هذه المنسوجات كانت حبيسة النوستالجيا وبعض المناسبات الاحتفالية، وعزز ذلك غزو “الفاست فاشن” (الموضة السريعة) الأسواق وإغراقها. إضافة إلى الصعوبات التي تعرض لها النساجون، سواء أكان في جلب المواد الأساسية، أو في التسويق لمنتجاتهم.

لكن ذلك لم يؤد أبداً إلى التخلي عن هذه الصناعات التقليدية، إذ برز جيل من المصممين الشباب المجددين الذين بعثوا فيها روحاً عصرية وفنية أيضاً، وأعادوها إلى الصدارة كما جعلوا هذه المنسوجات مشروعاً ثقافياً معارضاً للنظام الرأسمالي السائد.

مريم بريبري، إحدى الفنانات في المجال، هي مصممة أزياء تستوحي تصاميمها من الهوية التونسية الأمازيغية، ومشروعها “بريبري” كان حركة رفض لطمس موروث ثقافي فقد ألقه لدى الشباب ولنمط اقتصادي عالمي.

تعتمد البراند “بريبري” على المنسوجات الأمازيغية، وتقول مريم إن نحوها هذا المنحى كان موقفاً وخياراً عكسا رؤيتها وموقفها من “الفاست فاشن”، وفكرة فرض نوعية معينة للباس، كما أن الغزو العشوائي للماركات العالمية لتونس “لا يشبهنا”، وفق تعبيرها. وتضيف، في السياق ذاته، أن استغلال المصانع الكبرى للعمال والنساء في إطار النظام الرأسمالي يجعلها تنفر من كل منتوجاتها.

وتعدّ “بريبري” اللباس الأمازيغي هوية ثقافية تم طمسها بتوجه ثقافي وحضاري معين بعد الاستقلال مثل منع اللغة الأمازيغية وتهجير قرية تمزرط، لذلك فهي ترفض إلغاء هذا البعد الثقافي وتصر على إنعاشه.

وتقول مريم إن اللباس وسيلة تعبير، فالقشابية مثلاً لباس الرعاة والفلاحين، ويجب توثيق وإحياء ذاكرتها الشعبية، كما أن إضافة تصاميم وأشكال جديدة إليها يزيد في الإقبال على اقتنائها ويقطع مع الوصم الاجتماعي والتمييز والنظرة الدونية إلى هذه المهن، وإلى سكان الأرياف عامة.

وهنا، تذكر أنها اعتمدت الوشم ولباس الملية (لباس شعبي للنساء الريفيات)، والحلي الفضي لتطوّع اللباس التقليدي اليوم ليكون عصرياً، ولا يقتصر على المناسبات، ويكرّس في العادات اليومية سواء، في “بريبري” أو غيرها

وتضيف المصممة أنه كان من الصعب عدم مجاراة النسق العالمي للموضة وخلق فكر جديد، ومع انعدام الدعم، والوضع الاقتصادي المأزوم، تراجعت الحِرف والصناعات التقليدية، وظهر تعال على هذه الصناعات فلا هي في مجال السياحة ولا في مجال الصناعة.

وتختم أنها تطمح لنشر الفكرة خارج حدود تونس، وأنها ضد فكرة المنافسة وتدعو إلى التأسيس لثقافة جديدة مغايرة تقوم على تثمين الموروث الثقافي وتطويع الكتب والموسيقى في صناعة رموز اللباس، ومن المفرح بالنسبة إليها إيمان عديد الشباب بمشروع “بريبري”، والتعبير عن طريق اللباس.

ورغم هذه المشاريع الفنية والثقافية، فإن هذا النوع من اللباس أصبح مهدداً بالاندثار؛ لانعدام المراكز المختصة بتعليم الشباب هذه الحِرف، كما كان للأزمات الاقتصادية والسياسية في تونس وقع على الحرفيين المجددين منهم وغيرهم، حتى إن بعض أصحاب الحِرف أغلقوا محلاتهم بسبب ضعف الإقبال المحلي وتراجع السياحة.

فيما ذكرت وكالة النهوض بالصناعة والتجديد أن عدد المشاريع المصرح بها في القطاع الصناعي في تونس خلال السداسي الأول من السنة 2022 قد تراجع بنسبة 11.3%، وتم إلى حزيران/ يونيو من السنة نفسها التصريح في مختلف فروع الوكالة بـ1535 مشروعاً صناعياً مقابل 1730 في الفترة نفسها من 2021.

الميادين