الانسان والحياة.. الأهداف الذكية والقرارات الواعية

الترشيد الحكيم والبناء الصحيح لهذا الإنسان يؤدي به إلى اختيار أهدافه في الحياة اختيارا ناجحا، هذا الأمر يرفع مستوى تفكيره أيضا، يعني التفكير بترتيب الأولويات، أو التفكير من الأدنى إلى الأعلى، كلما كان هناك ترتيب وتوعية ونصح لهذا الإنسان، يرتفع مستوى تفكيره وعندما يرتفع مستوى تفكيره يرتفع مستوى أهدافه...

كل لحظة تمر على الإنسان هي خسارة من حياته، رأس المال الحقيقي للإنسان هو عمره، فعندما يمر عمر الإنسان في لحظة أو ثانية أو دقيقة أو ساعة أو يوم او شهر او سنة، فكل هذه خسارة للإنسان، فالخسارة الحقيقية للإنسان هي عمره وليس المال، ولا أي شيء ثانٍ، لذا فإن الإنسان الذكي العاقل الفهم الواعي واليقظ في حياته وأفكاره، هو الذي يستثمر عمره بحيث تصبح حياته طويلة.

 

بعض الناس يعيشون حياة قصيرة من جهة الزمن، ولكن هي طويلة جدا بسبب ما قدمه من الإنجازات والعمل الصالح، وبعض الناس يعيشون حياة طويلة جدا من جهة الزمن، ولكن هي خالية قصيرة او معدومة من جهة غياب الإنجازات او انعدام العمل الصالح، فرحلة الانسان في الحياة قصيرة مهما طالت سنين عمره، لكنها تصبح طويلة جدا بمقدار ما يستثمره من دقائق عمره في تحقيق الإنجازات.

 

وذلك يعتمد على قراراته واختياراته في الحياة، ونوعيتها وجدوائيتها من خلال الزوايا التي ينظر بها للحياة، وأهدافه التي يطمح لها، ومنظومة القيم التي تبتني عليها سلوكياته واخلاقه، ومدى التزامه بالمبادئ المنبثقة من تلك المنظومة، وجرأته على خوض التحديات التي تتعارض مع رغباته الذاتية، وعندما يصل قطار العمر الى محطته الأخيرة تبدأ ساعة الحساب مع الذات، الربح والخسارة، والحسرة والندم على ما فاته.

 

الإنسان العاقل الواعي اليقظ هو الذي يستطيع أن يستثمر محطات حياته، ولا يكون في تلك اللحظة الأخيرة من حياته، عندما ينتظر ذلك اليقين وهو الموت، متحسرا على ما فاته، وهو في كل الأحوال سيكون متحسرا، لأنه فاته الشيء الكثير، ولكن هناك بعض الناس فاتت عليهم أشياء أكثر، فهذا ستكون حسرته أعظم.

 

ولابد لكل انسان أن يصل إلى تلك اللحظة من التحسر على ما فات من عمره، وكيف أضاع تلك اللحظات والدقائق والأيام في اللهو واللعب، إنها غفلة الإنسان الفاشل الذي يكون غائبا عن دقائق ولحظات حياته، هنا لابد أن ننتبه، فعلى الإنسان أن ينتبه في الدنيا قبل أن ينتبه في الآخرة، حيث لابد للإنسان أن يبدأ محطات حياته بالانتباه مبكرا، وليس عندما تحين لحظة الموت ينتبه، بل عليه أن يفكر بعمق ويستثمر حياته بذكاء، وهذه الآيات الكريمة توضح معنى الحسرة (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) الزمر56/59.

 

ما هو هدف الإنسان في حياته؟

الإنسان يعيش على الأهداف، فكل إنسان سواء كان يقول بلسانه أو يضمر في داخله او قد لايشعر بذلك هناك أهداف في حياته، هذه الأهداف هي بالنتيجة سوف تؤدي إلى اتخاذ قرارات وصناعة اختيارات، وهذا يعتمد على أسلوب تفكيره ونوعيته، هل هو تفكير مادي محض، أم تفكيره معنوي، أو تفكيره خليط من الاثنين مادي ومعنوي.

 

مثلا قد يكون تفكيره أن يدرس وصولا إلى الجامعة ويتعلم ويحصل على شهادة دراسية لكي يحصل على وظيفة فحسب، هذا التفكير مادي محض، أو قد يدرس ويتعلم ويتخرج ثم يتعيّن طبيبا أو مهندسا ويعيش بهذا الراتب وفي نفس الوقت يخدم بلده، هذا الهدف يسمى مادي ومعنوي.

 

هنالك اختلاف جذري بين المادي والمعنوي، ويتم الاختيار بينهما بحسب نوعية التفكير، التقاليد الاجتماعية، التربية الأسرية، البيئة التي يعيش فيها، وفي بعض الأحيان بحسب الجو العام السائد بين الناس، فمثلا الأب يريد أن يتعلم أولاده ويفرض عليهم اختصاصا دراسيا علميا معينا، لكي يحصل على وظيفة فيها موارد جيدة، أما الأمور الأخرى فليست مهمة بالنسبة له، وطريقة التفكير هذه هي التي تجعله يختار هذا الهدف.

 

أو يكون اختياره معنويا محضا، كأن يقول بأنه يريد أن يتخرج طبيبا ليس من أجل جمع المال، وإنما أريد أن أقدم خدمة إنسانية، هنا يختار الجانب المعنوي فقط، دون التفكير بالجوانب المادية.

 

الكآبة وفقدان الجدوائية

هذه الأهداف تختلف من إنسان إلى آخر، طريقة التفكير مهمة جدا في اختيار الأهداف، والإنسان لابد أن يعرف كيف ينتخب أهدافه، ويكون دقيقا وواعيا وفاهما للنتائج المتمخضة عن أهدافه حتى يستطيع أن يكون ناجحا في حياته، سواء كان نجاحا ماديا أو نجاحا معنويا أو يجمع بين النجاحين المادي والمعنوي.

 

هنا نلاحظ أن النقطة الأساسية عند الإنسان في انتخاب أهدافه، إنه يرى بهذه الأهداف المادية قد تُشبع ما يحتاجه ماديا، يصل إلى مرحلة معينة فيقتنع بذلك، مثلا إذا كان في مرحلة الشباب يعيش بعضهم في أجواء مادية وصرف للأموال على اللذة والرحلات والسفر وشراء الملابس واقتناء السيارات الفارهة، وحيث انه لا يمتلك أهدافا معنوية فإنه بالنتيجة بعد الخمسين يصل إلى مرحلة يشعر بأن هذه الأشياء لا شيء، حيث يعيش إشباعا ماديا في فراغ معنوي، فيشعر بحالة انفصال عن الوجود وجدوائيته.

 

هنا تبدأ مرحلة الكآبة عند الإنسان، حين تكون أهدافه مادية فقط، لذا نلاحظ أن بعض الناس الذين تكون أهدافهم مادية فقط، يصلون إلى عمر معين، فيشعرون بأنهم ليس لديهم أي هدف في الحياة، فتصبح الحياة بالنسبة لهم بلا لذّة ولا طعم، خصوصا عندما يبلغ الإنسان مرحلة التقاعد، لأنه لم يضع مخططا لحياته يصل به إلى نتيجة أسمى مما هو عليه الآن، هنا يحتاج هذا الإنسان إلى مرشد وناصح.

 

الإنسان عندما يضع الهدف الأساس في حياته، فإنه يحسب حسابات النتائج، ليس الأمر أنه يضع الهدف ومن الممكن أن يتحقق أو لا، وإنما لتحقيق بالنتائج، وتحديدا النتائج التي تستمر حتى آخر عمره، أو المحطة الأخيرة من حياته.

 

فمثلا هناك إنسان صار عمره أربعون سنة وقد حقق كل شيء ثم ماذا؟ هل يريد أن يحقق إضافة مادية أخرى أيضا وأخرى وأخرى ثم ماذا؟، بعضهم هكذا لا يشبع من هذا الأمر، لأن هدفه منذ البداية كان ماديا فقط، ويصل إلى مرحلة أنه لا شيء له في هذه الحياة، لأنه حقق كل شيء أراده، لذلك يحتاج الإنسان إلى مرشد وناصح ينصحه في عملية اختيار الأهداف.

 

التربية على حكمة الاهداف

 

هنا يتبادر لنا السؤال التالي: كمرشد هل تبدأ النصيحة قبل البلوغ أم بعده؟

 

بل تبدأ منذ اللحظة الأولى في حياته، بالتربية من الأساس في عملية بناء الإنسان، بناء صحيحا، وهذا الأمر يحتاج إلى الوعي، وإلى منهج واع في عملية التربية، وأن لا تكون تربية مادية محضة، نحن نهتم بالتربية التي تعتني بالقضايا المادية فقط، نوعية ملابس الطفل، وكيفية إطعامه ونوع الطعام، وكيف نوفر له الحاجات الأساسية.

 

ولكن هذه الأمور تمثل جزء من المعادلة، الجهد الأعظم والأكبر هو كيف ننمي هذا الإنسان، تنمية معنوية نفسية أخلاقية، هنا تكمن النقطة الأساسية التي تبدأ من وراءها عملية الترتيب والتركيز، لذا يجب أن يكون الأب واعيا والأم كذلك، لكي تتم عملية البناء السليم للطفل، وسوف نتطرق بالتفصيل إلى هذا الموضوع في البحوث القادمة.

 

فالترشيد الحكيم والبناء الصحيح لهذا الإنسان يؤدي به إلى اختيار أهدافه في الحياة اختيارا ناجحا، هذا الأمر يرفع مستوى تفكيره أيضا، يعني التفكير بترتيب الأولويات، أو التفكير من الأدنى إلى الأعلى، كلما كان هناك ترتيب وتوعية ونصح لهذا الإنسان، يرتفع مستوى تفكيره وعندما يرتفع مستوى تفكيره يرتفع مستوى أهدافه، لاسيما إذا كان يعيش في بيئة سليمة، بيئة متقدمة متطورة راقية.

 

لذلك نحن نحتاج إلى أن يكون للأهداف جذور أساسية، لأن الأهداف التي لا توجد لها جذور أساسية أو أنها تقوم مجرد على الأشكال أو المظاهر، فإنها تكون مضرّة للإنسان وتقوده إلى نتائج عكسية.
هنا نحتاج إلى تقسيم هذه الأهداف وأنواعها، لكي نعرف من خلال ذلك ما هي نوعية الأهداف التي نحتاجها في حياتنا، فما هي هذه الأهداف؟

 

أولا: الأهداف الغائية

 

الأهداف مرتبطة بذات الإنسان، الغايات مرتبطة بشيء أعظم من الإنسان، خارج حدود الإنسان، وهي المبادئ، الأخلاق، الآخرة، فالأهداف تكون مرتبطة بالدنيا، أما الغايات فتكون مرتبطة بالأهداف السامية، وبالخصوص مرتبطة بالآخرة، ومن هنا فإن الأهداف التي تعتمد على الغايات السامية تكون أهدافا ناجحة.

 

كما ذكرنا سابقا بأن الطبيب الذي يهدف من وراء دراسة الطب تقديم خدمة إنسانية للآخرين، فموضوع غايته تكون إنسانية، هذا الدكتور أهدافه سامية ويبقى حتى آخر عمره وهو يشعر بالإشباع الذاتي لأنه حقّق أهدافه في الحياة. والإنسان الذي يدرس العلم والمعرفة يكون هدفه أن ينشر الوعي والتعليم والمعرفة في المجتمع، فهذا الإنسان يبقى حتى آخر عمره يتعلّم ويعلّم الناس.

 

ان الأهداف كما ورد في الروايات الشريفة تُسمى الآمال، ومن جهة أخرى تسمى الأمنيات(1)، فالآمال فهي الطموحات المرتبطة بالدنيا، أو الأهداف الدنيوية المحضة.

 

ثانيا: الأهداف الوهمية

 

الأهداف المادية هي أهداف وهمية، يتوهم الإنسان بأن هذه الأهداف سوف تحقق مصالحه لكنها هي أهداف وهمية، مزوَّرة، فالدنيا تزوّر الأمور، ولكن في الحقيقة ليست الدنيا هي التي تقوم بذلك، بل أوهام الإنسان، وطبيعة علاقة الإنسان بالدنيا، ورؤيته الدنيوية المحضة في بناء الأهداف هي التي تصنع الأوهام.

 

مسارات في بناء الأهداف الجيدة

 

ولكي يستطيع ان يفهم كل فرد وخصوصا كيف يستطيع ان يدرك الأهداف الجيدة ومن ثم يحققها لابد عليه ان يسلك هذه المسارات ويتتبع النصائح المقدمة اليه، ومنها:

 

أولا: ان يفكر كل واحد منا بمعنى حياته وقيمتها وكيف يحول هذه العمر القصير الى استثمار بعيد المدى. فمثلما يفكر الإنسان بالاستثمار المالي، يجب أن يفكر باستثمار عمره، فإذا استثمر عمره بشكل صحيح يربح كل شيء في حياته، وهذه اليقظة هي التي تستطيع ان تحدد الأهداف المطلوبة.

 

ثانيا: ان يدرس أهدافه بدقة وتأن بعيدا مع الدوافع المادية والنوازع الشهوانية، فالهدف هو الذي قد يحدد مصيره. لا يجب أن تكون دوافعه مادية أو شهواته أو رغباته، فعندما يقرر بعض الشباب أن يدرس في الجامعة، يقومون باختيار تخصصاتهم الجامعية رغبويا، وبعد سنة أو سنتين يندم على هذا الخيار، حيث يرى نفسه انه قد تورط في اختيار هذا التخصص، لأن رغباته وشهواته هي التي دفعته نحو هذا الخيار من دون تفكر مسبق، لذا لابد أولا أن يدرك أهدافه جيدا ويمعن فيها بدقة لكي تكون له رؤية واضحة، وحتى لا يندم بعد ذلك بأنه أضاع من عمره سنوات بسبب عدم دراسته لأهدافه بشكل دقيق.

 

ثالثا: عدم التخلي عن المبادئ الإلهية مهما كانت الظروف والصعوبات المحيطة، وذلك بالصبر والاستقامة لان العواقب الحسنة هي نتيجة للعمل بهذه المبادئ.

 

ففي أوقات معينة قد يرتكب الإنسان الحرام، أو يرتكب الكذب، ويغش في الامتحانات، أو يخون، هذه كلها عناصر للفشل، لأنه ابتعد عن القيم الحقيقية، فعلى الإنسان أن يختار دائما عناصر النجاح في حياته.

 

ومن طبع الإنسان المتعجّل انه يريد أن يحصل على الربح والمكاسب بسرعة، يحاول تحقيق ذلك دون تدقيق وتفكير بالعواقب وسرعان ما يندم، بالنتيجة يجب أن يكون عند الإنسان صبر، لأن العواقب الحسنة هي نتيجة للعمل وفق هذه المبادئ، ونتيجة الاستقامة هي دائما عواقب حسنة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (الصبر يعقب خيرا، فاصبروا تظفروا، وواظبوا على الصبر تؤجروا)(10)، فالظفر والنجاح والفوز وبالتالي العواقب الخيرة أمور تتم من خلال العمل بالمبادئ الإلهية.

 

رابعا: ان يبتعد عن تبرير اعماله السيئة وأهدافه الفاسدة لأن ذلك يقوده الى الفشل والدوران في دائرة الأوهام، والابتعاد عن تحمل مسؤولية نفسه ومجتمعه. لأن هذا التبرير يقوده إلى الفساد أكثر، فمشكلة الفاسد تبرير فساده والقاء اللوم والفشل على الآخرين.

 

فلابد على الإنسان دائما أن يحاسب نفسه محاسبة دقيقة، حتى يستطيع أن يفكر بشكل صحيح، ومن ثم تصحيح المسار، الإنسان التبريري هو الذي يتغافل عن الخطأ الموجود عنده، يبدأ بالتبرير الأول ثم التبرير الثاني إلى أن يصبح عنده جبل من الأخطاء.

 

أما الذي يكاشف نفسه ويحاسبها، فإنه ينتزع الخطر من نفسه ويذهب إلى المسار الصحيح، الناجحون هم هكذا، لأنهم لا يبررون أخطائهم، بل يحاسبون انفسهم قبل أن يحاسبوا الآخرين، لأن محاسبة الآخرين قبل محاسبة انفسهم ستقودهم إلى الفشل، عبر البقاء في دائرة مفرغة من الأوهام المستنسخة.

 

الفاشلون في حياتهم والمتذمرون من كل شيء هم الذين ينغمسون في التبرير، يلوم الجميع: المجتمع، أباه وأمه ومدرسته ومعلمه.

 

خامسا: لكي يستطيع الإنسان أن يعيش صالحا، عليه ان ينصف الآخرين ففي ذلك انصاف لنفسه وترسيخ لأخلاقه ودينه وانسانيته. فالأهداف النافعة هي إنصاف، وخروج من دائرة نفسه الى دائرة غيره، فتكون المنفعة للطرفين، فمن ينصف الآخرين يعيش في منظومة الحياة الصالحة، أما الذي لا ينصف الآخرين فإنه يعيش دائما عملية معقدة من الصراعات والأزمات والمشكلات مع الآخرين.

 

فمن ينصف زوجته ويهتم بها سوف يعيش حياة سعيدة معها، أما الذي لا ينصفها فيعيش تعيسا في حياته، وكذلك نفس الأمر بالنسبة للزوجة التي لا تنصف زوجها، الإنصاف في الحياة بين الأخ وأخيه، بين الزوجة وزوجها، بين الأب والابن، بين أفراد المجتمع، يجعل الحياة سعيدة صالحة وتؤدي إلى أن يكون الجميع رابحين ومنتفعين.

 

المصدر: شبكة النبأ