هناك عوامل متعددة ومهمة في السياسة الخارجية التركية تجاه التطورات والأزمة الأخيرة في أفغانستان، ومن بينها يمكن الإشارة إلى الروابط التاريخية والقرابة العرقية والتاريخية.
كما كانت تركيا ثاني دولة اعترفت بالحكومة الأفغانية الجديدة في عام 1921 وأسست تمثيلها الدبلوماسي في كابول.
من ناحية أخرى، يعتبر بعض الأقوام الأفغانية مثل الأوزبك والقزلباش والقيرغيز والهزارة في أفغانستان أنفسهم قريبين من تركيا عرقياً ولغوياً، وهذا الأمر أدى إلى استثمارات ثقافية كبيرة من قبل تركيا في أفغانستان، ولدى البلدين الكثير من المشتركات في ثلاث دوائر: الدول الإسلامية، والدول الآسيوية، والمنظمات الدولية، وكانت هناك علاقات جيدة بين الطرفين قبل سيطرة طالبان على كابول.
خلال فترة احتلال أفغانستان، كانت تركيا الدولة المسلمة الوحيدة وعضو حلف الناتو التي لديها قوات في أفغانستان. شاركت هذه الدولة بعد عام 2001 في المهمة العسكرية “قوات المساعدة الأمنية وإعادة الإعمار في أفغانستان (إيساف)” ومهمة “الدعم الحازم” التابعة للناتو في أفغانستان، واحتلت المرتبة السابعة بين قوات دول التحالف الدولي من الناتو وغير الناتو في أفغانستان.
ما طبيعة موضوع الوجود التركي في أفغانستان، و أي موقع تحتل أفغانستان في سياسة أنقرة الخارجية الجديدة؟
الخلفية التاريخية
خلال فترة حكم طالبان الأولى، وصلت العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوياتها، ولم تعترف تركيا بطالبان، وبعد سقوط طالبان، تولت هذه الدولة التي كانت تحت قيادة حزب العدالة والتنمية مسؤولية أمن كابول وبعض الولايات الشمالية في إطار قوات إيساف، ومع تولي حامد كرزاي، أعادت علاقاتها مع أفغانستان إلى ما كانت عليه قبل وجود طالبان.
في هذا السياق، سعت تركيا خلال العقدين الماضيين إلى تحسين وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي في أفغانستان باستخدام هذه الإمكانية، وتنفيذ برامجها الثقافية والاقتصادية والسياسية خاصة في المناطق التركية في أفغانستان.
في هذه الفترة الزمنية، وحيث أن وسائل الإعلام لها دور كبير في تغيير التفاعلات السياسية في إطار جماعي، قدمت أنقرة دعماً مالياً للأنشطة الإعلامية والتلفزيونية بشكل مباشر وغير مباشر، وبهذه الوسيلة تتابع أهدافاً طويلة المدى. دعمت تركيا ظاهرياً جهود التحديث في هذا البلد خلال السنوات الأخيرة، ولعبت أيضاً دوراً بارزاً في إنشاء مؤسسات مختلفة في المجالات الإدارية والعسكرية والثقافية والتعليمية والصحية.
الأهداف التركية
من جهة، تصر تركيا في مواجهة التزاماتها تجاه الناتو على أنها ستتعاون مع المجتمع الدولي وأعضاء هذا الحلف، ومن جهة أخرى، تتابع أنشطتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في أفغانستان. تتمتع هذه الدولة، بالنظر إلى خلفيتها التاريخية ونفوذها المعنوي في أفغانستان، بموقع ومكانة مناسبة، وفي المقابل، سعت حكومات كابول أيضاً إلى إقامة علاقات جيدة مع تركيا. و من عناصر الربط بين البلدين المتحدثون باللغة التركية والأتراك في أفغانستان بما في ذلك الأوزبك والتركمان والقزلباش.
في الوقت نفسه، يتمتع منافسو تركيا أيضاً بتاريخ طويل من العلاقات مع أفغانستان، ومثل المسؤولين الأتراك، فهم أيضاً على دراية بأهمية هذا البلد الجيوسياسية والجيواستراتيجية، وفي هذا السياق، لن تجد تركيا طريقاً سهلاً للوجود العسكري والاقتصادي والثقافي الواسع وغير المتنافس في أفغانستان.
إن مطلب تركيا من الوجود في أفغانستان،هو توسيع المساحة المادية والنفوذ المعنوي لتركيا.
لدى أفغانستان في المناطق الشمالية حدود مشتركة مع أوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان، وتفتح البلدان المذكورة جغرافيا واسعة للعالم التركي. سيسهل وجود تركيا في أفغانستان، باستغلال المزايا الجغرافية، إقامة علاقات وثيقة واستراتيجية بين أنقرة ودول آسيا الوسطى. إن اقتراب تركيا من هذه المنطقة الجغرافية التي تشترك في التاريخ والثقافة سيجلب أيضاً العديد من الفوائد السياسية والاقتصادية لتركيا.
أقام فتح ممر نخجوان-باكو بعد حرب قره باغ اتصالاً بين تركيا والعالم التركي، وسيعزز الوجود العسكري التركي في أفغانستان هذا النوع من الاتصال أكثر فأكثر.
الاستراتيجية الثقافية والتعليمية لتركيا في أفغانستان
إحدى أهم الروافع والإمكانيات المهمة لتوسيع العلاقات التركية مع أفغانستان هي وجود الأقلية الناطقة بالتركية في هذا البلد بما في ذلك الأوزبك والتركمان بنسبة تتراوح بين 10 إلى 15 بالمائة. في هذا السياق، يجب القول إن تركيا كان لديها دائماً نظرة مهمة لاستخدام هذه الإمكانية للنفوذ في البلدان الأخرى على مدار القرن العشرين. الآن أيضاً، في ظل سياسات حكومة أردوغان الإسلامية، وعلى الرغم من أن هذه المسألة لم تعد محصورة في كونها الرافعة الوحيدة للنفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي التركي في أفغانستان؛ إلا أنها بلا شك تعتبر من الروافع المستدامة في النفوذ الإقليمي لتركيا. لذلك، سعت تركيا خلال العقدين الماضيين إلى تحسين وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي في أفغانستان باستخدام هذه الإمكانات.
اتبعت تركيا في العقود الأخيرة نفس السياسة تجاه مجتمع الهزارة (بنسبة حوالي 15٪ من إجمالي المجتمع) وتهدف إلى النفوذ في المجموعات المذكورة بإلهام من الهوية التركية. تحاول تركيا، من خلال نشر فكرة أن مجتمع الهزارة ينحدر من أقوام المغول الذين هم من الأصل التركي، بطريقة ما جعلهم يتعاونون معها.
اليوم، يعتبر العديد من القادة السياسيين لمجتمع الهزارة تركيا بيتهم ووطنهم الآمن وهاجروا (فروا) إلى ذلك البلد بعد سيطرة طالبان.
بالإضافة إلى المجتمعات الثلاثة المذكورة، أقامت الحكومة التركية أيضاً علاقات خاصة مع المجتمع الإسلامي المرتبط بالطاجيك.
بناءً على التوضيحات المقدمة أعلاه، تابعت تركيا أنشطتها الثقافية والتعليمية منذ عام 2005 من خلال مؤسستين: مؤسسة يونس إمره ووكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، ونتيجة لذلك حتى الآن أكثر من ألف مشروع، أكثر من نصفها تعليمي وصحي. اليوم، تمكنت المدارس الأفغانية-التركية من جذب عدد كبير من الطلاب والطلاب الجامعيين الأفغان في العديد من المدن الكبيرة في أفغانستان.
حالياً، يدير الأتراك 17 موقعاً ويعلمون أكثر من 5000 طالب في 40 مدرسة تحت إدارتهم. يذهب العديد من الطلاب الأفغان إلى تركيا للدراسات الجامعية بعد الحصول على منح دراسية.
حتى الآن، تلقى حوالي 200 ألف طالب أفغاني خدمات تعليمية وحوالي ثمانية آلاف أفغاني خدمات علاجية.
قامت مؤسسة يونس إمره أيضاً بإنشاء مبنى في جامعة كابول باسم قسم الدراسات التركية ومركز أبحاث مولانا.
منحت هذه الدولة منحاً دراسية جامعية لأكثر من 57 ألف شخص من النخبة الأفغانية.
تنشط “تيكا” أيضاً في إعادة بناء المساجد وأضرحة المشاهير أو القادة الدينيين في أفغانستان. على سبيل المثال، يمكننا ذكر بناء ضريح برهان الدين رباني.
تتعاون “تيكا” أيضاً مع منظمة الديانة الحكومية التركية. هناك أيضاً منظمات غير حكومية ذات توجهات قومية وتركية تتواجد في أفغانستان إلى جانب “تيكا”. يتعلم الطلاب الأفغان في المدارس التركية في أفغانستان اللغة التركية الإسطنبولية بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية.
استثمرت تركيا حوالي 1.1 مليار دولار في قطاعات الأمن والصحة والتعليم والبنية التحتية في أفغانستان منذ عام 2001 حتى الآن.
كما حاولت تركيا، بعد عودة طالبان للحكم في أفغانستان، التفاعل مع طالبان في المجالات الثقافية والجامعية والتعليمية. في هذا المسار، يمكننا الإشارة إلى اللقاءات المتكررة للسفير والمسؤولين الأتراك مع القائم بأعمال وزارة التعليم العالي الأفغانية، زيارات الوفود العلمية والأساتذة الأتراك لجامعة كابول، تنظيم معرض للمعالم السياحية التركية في جامعة كابول، وسفر القائم بأعمال وزارة التعليم العالي مع عدد من أعضاء هيئة التدريس ورئيس جامعة كابول إلى تركيا، بناء مدارس دينية، تنظيم أنشطة ثقافية والاحتفال بالشخصيات العلمية والثقافية التركية في جامعات أفغانستان، الحفاظ على نشاط المدارس الأفغانية-التركية في أفغانستان، لقاءات العلماء الأتراك مع مسؤولي طالبان بما في ذلك القائم بأعمال وزارة الخارجية، سراج الدين حقاني القائم بأعمال وزارة الداخلية وغيرها من وزارات طالبان؛ زيارة ذبيح الله مجاهد المتحدث باسم طالبان إلى تركيا ولقاءات المسؤولين الأتراك مع قادة حكومة طالبان.
في الوقت نفسه، أكد مسؤولو طالبان أيضاً في هذه اللقاءات على إقامة علاقة قوية ومنتظمة بين تركيا وأفغانستان. يمكن القول إن تيكا، ووزارة السياحة والثقافة، ووزارة الخارجية، وتي آر تي، ومؤسسة يونس إمره، ووكالة الاستثمار والدعم، ومكتب المعلومات من وسائل الإعلام والمؤسسات الأخرى، مثل المنظمات غير الحكومية، ومنظمات الإغاثة والإنقاذ، وحقوق الإنسان، والمؤسسات، والجامعات، ووسائل الإعلام وغيرها من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، كلها نشطة في الدبلوماسية العامة التركية في أفغانستان؛ بل إن نفوذ تركيا في المجالين الثقافي والاجتماعي في أفغانستان شهد اتجاهاً تصاعدياً.